كتب

«مسيو إبراهيم وزهور القرآن»… الصعود إلى الجمال اللانهائي

تعيد طبعة عربية حديثة لرواية «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» عن دار «الكرمة» بالقاهرة، الحديث الأدبي حول أشهر أعمال الروائي الفرنسي إريك إيمانويل شميت، التي حازت اهتماماً عالمياً بعد صدورها عام 2001، وذاع صيتها، خصوصاً بعدما تحولت فيلماً سينمائياً بطولة الفنان المصري العالمي الراحل عمر الشريف. كما يعدّ شميت من أكثر المؤلفين الناطقين بالفرنسية قراءةً وتمثيلاً في العالم، فأعماله ترجمت إلى 40 لغة، وعرضت في أكثر من 50 دولة.

صدرت الترجمة العربية للرواية مسيو إبراهيم وزهور القرآن بتوقيع الأديب والمترجم المصري محمد سلماوي، الذي يصفها في كلمة له مصحوبة بالرواية بأنها: «قصة حب بين شطري هذا العالم، إنهما الشطران المتصارعان أبداً، الشرق والغرب، اللذان يجتمعان هنا في عناق نادر، لكنه -لقوة علاقتهما- يبدو كأنه عناق أبدي».

لحظة زمنية خاصة

يختبر شميت عبر علاقة استثنائية جمعت بين بطليه الشتيتين. كهل مسلم. وصبي يهودي. أسئلة حول مدى قدرة المعرفة على تفكيك العقبات العنصرية والحضارية والدينية داخل المجتمع الحديث. فيؤسس بناء روايته على تقنية الحوار المتصل بين بطليه: الصبي «موييس» والسيد «إبراهيم». اللذين يلتقيان في محل بقالة صغير في شارع «بلو» الباريسي. يشكل فضاءً مكانياً صغيراً يفتح أمام الصبي اليهودي نافذة على العالم الروحاني الشاسع الذي يمتلئ به صاحبه الكبير إبراهيم.

يبدأ هذا اللقاء بين بطلي الرواية، في لحظة زمنية خاصة للصبي الذي يخطو خطواته الأولى في عالم الرجال. ويعاني تراكمات الهجر المبكر، بعد أن تخلت عنه والدته في سنواته الأولى وتركت البيت. لينشأ في كنف أب بائس بلا عمل يتقلب داخل ظلامه النفسي. فيواجه الصبي العالم بمفرده دون قدوة. ليكون مسؤولاً عن مهامه المدرسية والعمل. كما وتدبير مشتريات البيت واكتشاف عالم الذكورة أيضا.

يمر «موييس» (موسى بالفرنسية) ببقالة السيد إبراهيم كغيره من المارة، بانطباعات عامة يعرفها الجميع عن هذا الكهل، بداية من أنه «العربي الوحيد في الحي اليهودي»، مروراً بأنه الرجل السبعيني الدؤوب الذي لا يبرح بقالته من الثامنة صباحاً وحتى منتصف الليل، يبتسم كثيراً ويتحدث قليلاً، هكذا ترسم الرواية ملامح السيد إبراهيم الأولى التي لا تخلو من تميز وطابع حركي، يصفه موييس بقوله: «كان مسيو إبراهيم عجوزاً منذ عرفناه».

مجرد عربي!

تجمع مفارقة سردية ماكرة بين الصبي والسيد إبراهيم. تكون سبباً في خلق آصرة بينهما حتى نهاية العمر. فالصبي الذي يعاني ووالده أزمة مالية مزمنة. يقرر وهو يشتري احتياجاته من السيد إبراهيم أن يسرق كل مرة علبة طعام محفوظ من بقالته. ولا يرى أن ما يفعله خطيئة. ببساطة لأن السيد إبراهيم «في النهاية ما هو إلا مجرد عربي!».

فتفتح الرواية هامشاً مبكراً لسؤال أخلاقي حول العنصرية في المجتمع الفرنسي. ومع الوقت يدرك الصبي أن السيد إبراهيم كان يعلم بأنه يسرقه. وبدلاً من أن يتسبب هذا الموقف في تعنيف الصبي، يكون مدخلاً لأفق إنساني بينهما. يعضده السيد إبراهيم بخفة ظل وابتسامة معهودة. يبدأه بأن يطلق عليه «مومو» بدلاً من «موييس» في تدليل يقصد به إزالة رهبته بعد كشف سرقته، ويبدأ في تعليم الصبي مهارات تخفيف أعباء الميزانية، وتوفير المال دون سرقة، وهو الأمر الذي تطور إلى حوارات يومية متجددة، منها فضول الصبي اليهودي المراهق عن عالم الفتيات وأمور الحب: «بفضل مسيو إبراهيم انشق أمامي عالم الكبار».

في عالم الكبار، يتعلم الصبي أن هناك فرقاً بين «مسلم» و«عربي»، بعد أن يوضح له السيد إبراهيم أنه ليس عربياً كما دأب أهل الحي على وسمه منذ سنوات، يشرح له سبب أنهم يطلقون عليه «البقال العربي» وهو أن بقالته مفتوحة في المساء وفي أيام الآحاد، أما في الحقيقة فهو من بلاد الأناضول أو بلاد «الهلال الذهبي»، كما كان يحب أن يطلق عليها.

يخبره إبراهيم أيضاً بأنه «صوفي»، فيثير فضول الصبي ويذهب للبحث عن معنى تلك الكلمة في القاموس، فلا يسعفه القاموس كثيراً، فيظل القرآن والصوفية هاجسين لدى الصبي، خصوصاً أن السيد إبراهيم كان دائماً ما يختم إجاباته بعبارة: «أعرف ما في قرآني».

هذا في قرآني

تتعمق أواصر المعرفة بين البطلين، بعد أن يقرر والد «مومو» الرحيل وهجر البيت، وبعد فترة تتواصل الشرطة مع «مومو» لتنقل له خبر انتحار والده والعثور على جثته، في مشهد قاسٍ يكون سبباً في فتح فصل قدري جديد في علاقته بالسيد إبراهيم الذي لا يتردد في تبنيه، باتخاذه ابناً له بالأوراق الرسمية، ويبدأ كل منهما في اختبار تلك الآصرة العائلية «الاختيارية» كأب وابن، يتواصلان بكلمتي «بابا» و«ابني»، فتثير داخلهما كثيراً من الشجن والحنين: «كم هو غريب أن تثير الكلمات نفسها مشاعر مختلفة في نفسك، فعندما كنت أقول بابا لمسيو إبراهيم كان قلبي يضحك فرحاً، كنت أمتلئ ثقة، كان المستقبل يتلألأ أمام عيني».

يقرران الاحتفال، فيشتري السيد إبراهيم سيارة ليأخذ ابنه في مغامرة وجولة أوروبيّة، حتى يصلا إلى مسقط رأسه بالأناضول في «الهلال الذهبي»، وهي رحلة تجوب شعاباً جغرافية وعاطفية تؤسس علاقة البنوة والأبوة الوليدة، وتأخذ الصبي «مومو» إلى دروب روحانية مفعمة بالتصوّرات الجمالية التي يؤمن بها والده الجديد إبراهيم الذي كان يردد على مسامعه: «الجمال موجود في كل مكان يا مومو، أينما وجهت نظرك، هذا في قرآني».

يجد الصبي اليهودي نفسه وهو يتحرر من ماضيه الذي نشأ فيه مخذولاً من والديه، ويقترب من عالم صوفي يرقص فيه لأول مرة رقصة الدراويش، ليتعرف على عالم الصوفية الذي لم يدلّه عليه القاموس. يصل به السيد إبراهيم إلى «التكية»، وهناك يتعجب الصبي من التفاف كل درويش حول نفسه كدوامة، ويفيض إبراهيم هنا تعبيراً عن فلسفته الشعرية، حيث «قلب الإنسان مثل عصفور محبوس داخل قفص الجسد» يقول لمومو: «حين ترقص فالقلب يغرد مثل العصفور الذي يتوق إلى الذوبان في الذات الإلهية».

رقصة الدرويش

يرقص الصبي الفرنسي رقصة الدرويش، ومن حوله الدراويش يرتدون جلابيب بيضاء فضفاضة. يسأله إبراهيم: «هل شعرت بأشياء جميلة؟»، يبدأ الصبي بالتدريج في اختبار مشاعر شفيفة. تجعله يشعر بحالة تسامٍ تخفف من غضبه تجاه والديه اللذين هجراه. وهو يلوذ بحوارات دافئة ممتدة مع والده الجديد عن السعادة، والمعرفة. والخلق، حوارات لا تعرف النبرة الوعظية.

إلا أن تلك الحالة الأقرب لـ«الحلم» يشتتها موت إبراهيم إثر حادث. فيموت في مسقط رأسه. ليترك «مومو» في لحظة تشبّع «صوفي». وقد أورثه فلسفته وأفكاره وقرآنه. «وهكذا أصبحت أدور كالدراويش كلما ساءت الأمور»، يقولها «مومو» وهو يرقص ويده متجهة للسماء، واليد الأخرى متجهة إلى الأرض، السماء تدور من فوقه، والأرض تدور من تحته، في مشهد يبدو تتويجاً بصرياً لفلسفة رواية مسيو إبراهيم وزهور القرآن حول ذوبان الفروق الدينية، التي تلتقي في اتساع روحي لا نهائي.

صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى