مع المتنبي
عدت إلى المتنبي مؤخرا بدافع مما كتبته خصوم المتنبي القدامى في التشكيك بأخلاقيته فإذ بي أنسى نفسي و أنا أدخل في قراءة ديوانه و قد إنتبهت مع كل قراءة لملاحظات جديدة في أسلوب المتنبي المتميز بالكثافة حتى التعبير أحيانا فهو لا يرى الشيء وحده فقط بل يراه دوما مقترنا بأهم مضاعفاته و من هنا يكتسب المعنى طابعاً إشكالياً جديداً غريباً – إنه يأتي مثلاً إلى المعنى الشائع المتداول لقول شاعر مغمور إسمه ” علي بن جبلة الكعكوك ” في عزلته :
بأبي من زارني مُكتَتِماً حَذِراً من كُلّ واشٍ جَزِعا
زائراً نمَّ عليهِ حسنهُ كيف يُخْفي اللَّيْلُ بدراً طَلَعَا
فأت المتنبي إلى هذه الأبيات التي استخدم أمثالها ” البحتري” حين قال :
وَحَاوَلْنَ كِتْمَانَ التَّرَحُّلِ فِي الدُّجَى فَنَمَّ بِهِنَّ الْمِسْكُ حِينَ تَضَوَّعَا
و أخرون غيرهما فأتى “المتنبي” إلى هذا المعنى الغزلي فصاغه بأسلوب آخر خاص به متجاوزاً ما صنعه هذان الشاعران حين قال :
أَمِنَ اِزدَيارَكِ في الدُجى الرُقَباءُ إِذ حَيثُ أَنتِ مِنَ الظَلامِ ضِياءُ
قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها وَمَسيرُها في اللَيلِ وَهيَ ذُكاءُ
و هنا نكتشف عبر المقارنة أن صياغة “المتنبي” للمعنى نفسه كانت الأفضل و الأجمل فالشاعر ” علي بن جبلة ” يطرح صورة الحبيب المضيء ضمن جملة خبرية تقريرية يبدو فيها الحبيب مؤرقاً صعوبة المشكلة التي أوقعه فيها الإقتران بشخصه في حين أن المتنبي يجعلها مشكلة المشاكل حين يجعل هذا النور نعمة للرقباء إذ يريحهم من عملية الرقابة و بالتالي فهو يبدو نقمة على الشخص المراقب – بفتح القاف –
و هكذا يختصر هذا النوع من الغزل بأسلوبه الأكثر عمقا عبر قوله : قلق المليحة
مما يزيد الصورة غنى و المعنى المقصود عمقا كما يبدع في إضافة تعليقه على هذا التنوع من الغزل بهذا البيت الرائع :
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
و هكذا لا يبدو المتنبي مقتنصاً أشعار الأخرين بل هو يجعل منظر الحبيبة وهي في طريقها إلى موعدها مع الحبيب أن عطرها قلب الليل إلى نهار تشع فيه الشمس !!..