مع بشار الأسد أو من دونه

بسرعة، انتقل العالم إلى ما بعد الاتفاق النووي. ازدحمت اللقاءات والتوقعات والإشارات: حرب حاسمة قريبة على «داعش» بصيغة دولية ـ إقليمية جديدة، سوريا في طريقها إلى التسوية السياسية، خريطة جيوسياسية جديدة للمشرق، تلزيم المشكلات لذوي الاختصاص والنفوذ، من اليمن إلى ليبيا والعراق وسوريا.

بسرعة حصل كل ذلك، ولكن الحلول ليست سريعة ولا سهلة. ما تزال المنطقة في مرحلة ما قبل الحروف الأولى من نصّ حل النزاعات سياسياً، بعد فقدان آمال الجميع بانتصارات عسكرية قابلة للترجمة. «التفاؤل» الضئيل هو في اتفاق المتحاربين بالأصالة وبالوكالة على قتال «داعش». الحرب المعلنة منذ عام ونيّف على «دولة الخلافة» العظمى، أسفر عن حقيقة ميدانية واضحة: بقاء «داعش» تهديداً إقليمياً وعربياً وافريقياً وأوروبياً ودولياً، بفعالية متزايدة وبضربات موجعة، على جبهات قتال منتشرة في ثلاث قارات. إذا كان ذلك كذلك، فهل يتوقع أن تكون «الحرب الثانية» على «داعش» كالحرب الأولى؟

بمعزل عن كفاءة الضربات الجوية المشكوك في قدرتها على الحسم الميداني، ثمّة تساؤل عن كفاءة التزام الدول المشاركة في «التحالف الدولي»، والدول المزمع أن تنضمّ إلى هذا التحالف، في حربه على «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وفروع هذه الدولة المنتشرة في المحيط العربي والمدى الإقليمي؟

الحرب على «داعش» مرجحة، إنما بشروط الأطراف المشاركة فيها. تركيا التي أجّلت حربها على «داعش»، واستعاضت عنها بغض النظر والدعم والاحتضان، أعلنت بلسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو، أن الحرب ستكون كبيرة وستصيب «داعش» داخل الأراضي السورية. هي الحرب إذاً. أُضيفت إلى أولويات تركيا أولوية مكافحة الإرهاب، من دون التخلي عن حربين تخوضهما تركيا. الأولى ضد التنظيمات الكردية التي تحارب «داعش» ميدانياً، بدعم جوي أميركي، ومساهمة الجيش السوري، إذا توفر له ذلك. والثانية ضد النظام السوري الذي تحارب قواته «داعش» وشقيقاتها المتمثلة بـ «النصرة» و «جيش الفتح» و…

هي حرب اشتباك متعدّدة الأطراف. أعداء يقاتلون عدواً واحداً، فيما هم مشتبكون في قتال حقيقي، بري وجوي، وفي التحامات ميدانية على جبهات متنقلة، وبخسائر لا تُحصى، بشراً وحجراً ومدناً وبنى تحتية… ويمكن تصور أو احتساب المعركة وفق المتوالية التالية: «كل ضربة تتلقاها «داعش» من تركيا، ستواكبها ضربتان، واحدة لـ «حزب العمال الكردستاني» بفروعه كافة، وأخرى للقوات السورية، بواسطة تنظيمات إسلامية حليفة لتركيا.

الولايات المتحدة تجدد طلعاتها الجوية القتالية. قتال «داعش» جواً ليس حصرياً. فهي تهدد الجيش السوري، «الحليف غصباً عنه»، بقصفه، إذا مسَّ حلفاء واشنطن الذين قامت بتدريبهم كمعارضة معتدلة ولكن مسلحة!

الحرب شيء والسياسة شيء آخر. حسابات الأفرقاء في القتال مختلفة وأحياناً متناقضة. ثم إن حسابات ما بعد الحرب لا تُبنى على خطط ما قبل الحرب. البنادق غالباً ما تكتب نصوص النهايات وتشرع للنتائج شرعية الحضور. لذا، تتفهّم أميركا مخاوف تركيا من احتمالات إقامة كيان كردي متاخم لحدودها، من دون أن تسمح لتركيا بهزيمة الأكراد. وتسهر واشنطن بعناية على بقاء «الحلم الكردي» حياً، من دون قابلية التنفيذ. فللأكراد دور في الحرب، على أن يقود ذلك إلى تأسيس كيان لهم. وبين الاثنين، تلعب أميركا على تحالف عسكري جوي مع تركيا، وتحالف عسكري ميداني مع الأكراد. والشهادات التي أُغدقت على التنظيمات الكردية المقاتلة، من قبل أركان الحرب الأميركيين، تجعلهم قدوة ميدانية يعوَّل عليها، أكثر من الجيش العراقي المخلَّع والجيش السوري المتعَب.

والنظام في سوريا، يقاتل «داعش» بشروطه التي لا تجد آذاناً صاغية من خصومه وممن يشكلون نواة الأعداء في قيادة «التحالف الدولي الإقليمي» العتيد… فالنظام يطالب بالتنسيق معه، حتى في المناطق التي انسحبت منها قواته، وهي مناطق تبلغ حوالي 60 في المئة من مجمل الأراضي السورية. يريد النظام أن يحمي سيادته، ويشترط، شرطاً تعجيزياً، أن يكون القتال ضد كل من يحمل السلاح في وجه الشرعية والدولة والنظام. دمشق تعتبر أن كل معارض مسلح هو إرهابي. وهذا ما لا تراه قوى التحالف، المتحالفة والمؤيدة والداعمة لكثير من حَمَلة السلاح في وجه النظام والشرعية.

لا ترغب الولايات المتحدة بإعادة تشكيل المنطقة جغرافياً. لا تلاعُب بحدود «سايكس ـ بيكو». هي تعمل لإعادة تشكيلها سياسياً. الخريطة السياسية الصعبة أسهل بكثير من إعادة رسم الخرائط الجغرافية. الظنّ الغالب أن تتكوّن كل دولة من نظام تتمثل فيه مكوناته الفسيفسائية، دينياً وطائفياً ومذهبياً وأقوامياً. وبين هذا الهدف النظري ورؤيته واقعاً، حروب مستعرة لم تهدأ، وقد يطول أوارها زمناً. لذلك، لا ترغب واشنطن في إسقاط النظام في سوريا، وإذا أمكن المحافظة عليه، في حدود «محافظتي دمشق وريفها، واللاذقية ومحيطها».

هذا عن الحرب على «داعش» في سوريا، أما في العراق، فتبدو أصعب، لاشتباك مصالح القوى الإقليمية والقوى الدولية. لم تعترف قوى «التحالف الدولي» بعد بالدور الإيراني الحاسم في العراق. ما كانت تتحاشاه واشنطن قبل الاتفاق النووي، من تنسيق معلن في الحرب على «داعش»، بات سهلاً وموضوعياً. لا يمكن لعاقل سياسي أن ينكر الثقل السياسي والميداني الذي تمارسه إيران. ومثل هذا الاعتراف يستحيل على «الشريك السعودي»، الذي يخوض شبه حرب وجود في اليمن ضد إيران، حليفه العدو في التحالف المزمع توسيعه في الحرب على «داعش».

كل ذلك في كفة وحل المسألة السورية في كفة أخرى.

المسألة السورية حطّت في عمان وطهران وكوالالامبور، وتسلّلت إلى موسكو والدوحة، وتمركزت على ما يبدو في موسكو بموافقة أميركية. التصريحات لا تخرس ولا تقول جديداً. اقتراحات ومبادرات تدور حول جنيف واحد. تعديلات على معنى ومضمون الحل السياسي، ومفهوم الحكومة الانتقالية، وفذلكة «حكومة اتحاد وطني» أو «الوحدة الوطنية»، وموقع بشار الأسد فيها. فهل هو جزء من التسوية أم مرحلة من مراحلها؟ كل المشكلة في البداية. والبدء، هل الحل سيكون مع الأسد أو من دونه أو معه مجرداً من صلاحياته.

لا إجابات حاسمة. كل جواب يحتاج إلى حرب. وكل حرب تحتاج إلى ضحايا، والضحايا باتوا فائضاً عن كل الحروب. وهزيمة «داعش» على ما يُقال، ليست قريبة. والحل في سوريا بعيد، ودونه مشقة المعارك وقبول التنازلات.

ماذا بعد؟

يعنُّ على خاطري أن أختم هذه الكلمات بعنوان كتاب آلان باتون: «ابكِ يا بلدي الحبيب».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى