مكانة الاستخبارات الإسرائيلية وقدرتها على التكهّن بالمستقبل

تولي إسرائيل في السنوات الأخيرة أجهزتها الاستخبارية اهتماماً يفوق مرات مضاعفة ما كان عليه الحال في سنوات سابقة. ويشهد التوسّع في عمل شعبة الاستخبارات العسكرية، خصوصاً وحدة النخبة فيها المسماة الوحدة 8200 والمتخصصة بالتنصت والمراقبة الألكترونية على هذا الاهتمام. كما أن توسّع الموساد والشاباك والخاضعين لرئاسة الحكومة الإسرائيلية أخذ حصة كبيرة من الميزانية المخصصة لهذا الديوان مثلما أخذ توسع شعبة الاستخبارات حصة كبيرة من ميزانية الدفاع. ومع ذلك ورغم الهالة التي تحيط بعمل الاستخبارات الإسرائيلية لا ينال قادتها في إسرائيل ما يناله قادة الاستخبارات في دول عربية وأجنبية. ومن الجائز أن ذلك يعود إلى أسباب كثيرة بينها نضج العملية السياسية والقادة الحزبيين في إسرائيل والدول الأجنبية مقارنة مع تخلف قائم غالباً في دول العالم الثالث. فالقادة السياسيون في الدول التي تسير وفق مبادئ ديموقراطية يتم فيها تداول الحكم يمتلكون قوة تجعلهم قادرين على تسيير قادة الأجهزة الأمنية في بلادهم. وفضلاً عن ذلك فإن أجهزة الاستخبارات في أغلب الدول الديموقراطية معنية بالحفاظ على الدولة وأمنها القومي وليس أساساً بالحفاظ على الحكم وقادته. ولذلك فإنها في الغالب ليست صاحبة فضل على الرؤساء وقادة الحكم ما يجعل دورهم أقل أثراً.

غير أن المسألة في إسرائيل كانت تبدو مختلفة عما عليه الحال في أغلب الدول الغربية. فالدولة العبرية نشأت على أسنة الحراب وعلى فوهات بنادق المحاربين ما منح الجيش ومؤسسته ومكونات الأمن وأجهزته أهمية فائقة. وكثيراً ما كتب في الماضي عن تقاسم وظيفي كرّسه رئيس الحكومة الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون بين المؤسستين السياسية والعسكرية. ورغم أن القانون الإسرائيلي يلزم الجيش بالخضوع للقيادة السياسية إلا أن موجبات العمل منحت الجيش ليس فقط حصة كبيرة من كعكة الميزانية وإنما جعلت الجيش ميداناً للتدرّب على قيادة الدولة. وهكذا كان القادة العسكريون من قادة المناطق والأذرع ورؤساء الأركان مرشحين طبيعيين للقيادة في المؤسسة السياسية.

ومؤكد أن نجاحات الجيش الإسرائيلي في حروبه في العقود الأولى لقيام الدولة العبرية والأسطرة التي رافقت قادته وجنوده أفسحت مجالاً واسعاً لهذا التقاسم. ولكن مع ازدياد التقدم الاقتصادي والتقني والعلمي في إسرائيل صارت مكانة الجيش تتراجع لمصلحة مكانة المدراء ورجال الأعمال. وهذا يفسر إقرار الحكومة الإسرائيلية مؤخراً الميزانية العامة من دون قبول رغبات وإملاءات وتحذيرات الجيش.

ولكن حال الجيش ظل يختلف عن حال الأجهزة الاستخبارية وقادتها. وتظهر المقالة المنشورة في معاريف، لكاتبها يوسي ميلمان أنه رغم تقدير المؤسسة السياسية لأجهزة الاستخبارات ولرجالها إلا أن الخلاف كان دائماً بين رؤساء الحكومات ورؤساء أجهزة الاستخبارات ليس بشأن المهام العملياتية وإنما بشأن التقديرات السياسية. فرؤساء الحكومات الأقوياء المدفوعون إلى السياسة بحوافز شخصية وحزبية وأيديولوجية يرون الأمور ليس بمنظار «الحرفيين» المفترض أن تكون اعتباراتهم متحرّرة من هذه الحوافز. وبديهي أن أياً منهم لم يدخل معترك الحياة السياسية فقط «خدمة لوجه الله» وإنما يريد أن يحقق منها أغراضه التي يسعى قدر الإمكان لتحقيقها، بحيث لا تتعارض مع المصلحة العامة.

ورغم احترام رؤساء الحكومات الإسرائيلية لقدرة رجال الاستخبارات على جلب معلومات مفيدة سواء في الجانب العسكري أو السياسي فإن أغلبهم رفض التعامل مع تقديرات الاستخبارات على أنها أهم بكثير من تقديرات المحللين السياسيين في الصحف ووسائل الإعلام. بل إن بعضهم رأى بنفسه أقدر من الاستخبارات على التكهن بمجريات الحاضر نحو المستقبل. وفقط من بين رؤساء الحكومات المنشدهين بالاستخبارات كان أمثال إيهود أولمرت الذي لم يكن رجلاً عسكرياً وكان ضعيفاً لناحية الشعبية والحزبية. ولذلك كان أقرب إلى أن يكون رهينة بأيدي العسكريين والأمنيين. وبالعكس، مثلاً كان أرييل شارون وإيهود باراك وحتى اسحق شامير الذي خدم في منظمة شتيرن ثم في الموساد نفسه.

وليس صدفة أن أشخاصاً مثل الثلاثة الأخيرين، ومثلهم اسحق رابين وشمعون بيريز، كانوا شديدي الحرص على حصر قادة الاستخبارات في مهامهم والتعامل معهم كموظفين وليس كمستشارين، وهو ما بدا واضحاً في المقالة. وهناك من يعتقد أن رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو يعتبر بين رؤساء الحكومات الضعفاء في هذا المجال.

وأياً يكن الحال فإن أغلب الباحثين يرون أنه رغم ميل رؤساء الحكومات في إسرائيل للتعامل باستقلالية تامة مع تقديرات الاستخبارات إلا أن ذلك لا يقلل من حاجتهم إلى هذه التقديرات. ويقول باحث بارز في شؤون الاستخبارات هو جوزيف ناي إن «الاستخبارات ليس بوسعها التكهن بالمستقبل، لكن بوسعها مساعدة صناع القرار على التفكير في المستقبل». وواضح أن هذا القول يعبر عن حكمة حياة لكنه لا يأخذ بالحسبان واقع أن الساسة في كثير من الأحوال لا يريدون النظر إلى ما بعد خطوات منهم، لأنهم يكونون غارقين في أزمات راهنة لا يمتنعون عن محاولة حلّها حتى إذا كان ذلك ينطوي على مساس بالمستقبل. لقد مرّت فترات على إسرائيل كان فيها قادة التقطوا الفرص وبنوا آليات لقراءة المستقبل واستفادوا بشكل واضح من الصدف والضرورات واعتمدوا أكثر من أي شيء آخر على أخطاء أعدائهم. ومراجعة تاريخ علاقات إسرائيل مع «تحالف الأطراف» أو حتى مع منظمات عملت ضد دول عربية أو جهات عربية حاربت بعضها تشكل أكبر دليل على ذلك.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى