مملكة العبيد السوريين في صقليّة| رواية “ملك اللصوص” لتيسير خلف
مملكة العبيد السوريين في صقليّة| رواية “ملك اللصوص” لتيسير خلف …. لا شك أن أدق توصيف للرواية، هو ما ذكره ميخائيل باختين (1895 – 1975) بأنها “نوع غير منته، ومُختَرق الحدود”، فالمتابع لتطوّر الأجناس الأدبيّة، يكتشف أن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر صيرورة وتحولاً، وغير قابل للتشكّل، لما تتمتع به طبيعتها من مرونة واختراق، فمنذ نشأتها لم تكف عن التطور، والتداخل مع كافة الأجناس الأدبية وغير الأدبية.
وقد زاد من كسر حِدة التمييز بين الأنواع الأدبيّة التي تشكّلت على حدود النوع الروائي من قبيل: رواية تاريخية، واقعية، رومانسية، رمزية، نفسية، رواية جديدة، رواية سيرة، ورواية تفاعلية… إلخ، ما استقر عليه النقد الأدبي في اللسانيات الحديثة من مفهوم النص، الذي وسّع دائرة الأنواع الواقعة تحت مظلته، كما كان لاعتبار السرد “فعل لا حدود له” إيذانًا ليتسع بصورة أكثر شمولية، ويشمل الخطابات سواء كانت أدبيّة أو غير أدبيّة، يبدعه الإنسان أينما وجد، وحيثما كان، فهو كما يقول رولان بارت (1915 – 1980) “موجودٌ دائمًا وأبدًا في الحياة”، وبهذا المعنى أضحت الحياة ذات صلة وثيقة بالسرد، كما يقول بول ريكور (1913 – 1998)..
هذه الرحابة التي خلقها مفهوما النص، والسرد، تدفع بنا إلى إعادة التساؤلات من جديد، حول طبيعة الأنواع الأدبيّة، وتقسيماتها، وما ينبثق منها من تساؤلات فرعيّة تتصل بالنوع الواحد المحدّد من قبيل: هل الكتابة عن فضاء تاريخي، أو عن شخصيّة تاريخيّة، أو اختيار فترة تاريخية من الزمن، هو ما يدرج أيّ عمل إلى الرواية التاريخية؟ ما الذي يجعلنا نلصق عبارة رواية تاريخية على نص ما؟ وإذا كان الأمر – كما هو شائع – بأن الرواية التاريخية هي “تلك التي تقدم تاريخًا وأشخاصًا وأحداثًا يمكن التعرض لهم” كما عرفها جوناثان فيلد، إذن، فماذا عن المدونات التاريخيّة، مثل: كتب التيجان في ملوك حمير ومروج الذهب ومعادن الجوهر؟ هل يمكن اعتبارها روايات تاريخية لهيمنة السرد عليها، على نحو ما رأى البعض، أم أن الحاجة فعلا إلى مصطلح بديل، في كتابه “محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي”، ثم ما بلوره عبدالله إبراهيم، في مصطلح “التخييل التاريخي” والذي عرفه بأنه “المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد”، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية، فهو لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها ولا يروج لها إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال والتاريخ المدعم بالوثائق، لكنه تركيب ثالث مختلف عنهما.
رواية التجربة الإنسانية
في ظني أن الحديث عن شخصية تاريخية لا يختلف كثيرًا عن بطل خيالي، فكلاهما لديه واقع مراجعي، الأول واقعه مستمّد من كتب المرويات والمدوّنات التاريخيّة، والثاني له واقع تخييلي، يقيمه الروائي، ويشكله دون أن ننسى جذوره التي تتصل بالواقع بشكل أو بآخر حتى ولو بدا خياليًّا، فثمة جذور له في الواقع، فالذي يميز الشخصيتين (التاريخية والخيالية) هو الآليات التي يعتمدها الروائي على تشكل شخصيته، وأهم مرتكزات الرواية، هو السّرد، واللُّغة، والتناصات، فكما يقول رولان بارت “إن الواقعة ليس لها سوى وجود لساني”. فهذه الآليات هي التي تُقرِّب النص من التاريخ وليس مجرد استدعاء الشخصية من التاريخ، قد يكون هذا الرأي مخالفًا لما هو سائد. ولكن ما يطمئنني على صدق افتراضي – بالنسبة إليّ على الأقل – أن معظم من يعتمدون اعتمادًا كليًّا على التاريخ في مروياتهم السردية، في الحقيقة عينهم على الواقع الآني، زمن الكتابة تحديدًا، هو الذي يشدهم إلى استدعاء فترة من الفترات، أو شخصية من الشخصيات، أو حادثة من الحوادث؛ لأنها ترتبط في ذاكرتهم بما يماثلها أو يشابهها في واقعهم وإن أخفوا المتشابه، وأظهروا المشبه به، بحكم الواقع وإشكالياته المتعلقة بحدود حرية التعبير. ومن ثم فتعاملي مع المرويات التاريخية، على أنها روايات تقصد الحاضر، وإن تمثلت زمنًا غير زمنها، وشخصيات غير شخصياتها، فهي مرويات عن الحاضرة بصيغ وأساليب مراوغة ليس إلّا.
في انتقاد فرجيينا وولف (1882 – 1941) للرواية التاريخية تقول إنها تفتقد إلى الابتكار، وتركز على الأشياء التافهة، وغير الأساسية، بينما كان يجب أن تركز على إشكاليّة التجربة الإنسانيّة والمعرفة. ومن منطلق هذا المعنى المهم الذي أشارت إليه وولف، وقبلها قراءة الرواية المتمثلة للتاريخ في سياق زمن كتابتها، يمكن لي قراءة رواية تيسير خلف الجديدة “ملك اللصوص: لفائف أيونوس السوري” الصادرة عن منشورات المتوسط – إيطاليا (2022)، وهي تأتي ضمن التيمة الكتابية السائدة له حيث اللجوء إلى المدونة التاريخية، واستحضار شخصيات التاريخ؛ التي هي شخصيات من دم ولحم، ولكنه يضعها في سياق روائي – تخييلي.
ومن ثم يضعنا في إشكالية أيهما ينتمي إلى الوقائع التاريخية وأيهما ينتمي إلى التخييل، وما هي رسائل الحاضر التي تمرر في سياق السرد؛ فالحدود بين النوعين تكاد تكون غائمة، بل ثمة اندياح في المسافة الفاصلة بين النوعين، لشدة الإحكام البنائي في رسم الشخصيات والأحداث.
لم يعد ثمة شك بأن الرواية التاريخيّة كما كانت عند السير والتر سكوت (1771 – 1832)، التي تستدعي زمنًا تاريخيًّا بكل ألوانه الحالمة الزاهية، ليس له وجود الآن، وأن معظم الخطابات السردية، تنتهج طرائق جديدة وإن تلبّست بلبوس الماضي والتاريخ؛ فالرواية التاريخية في الفترة الأخيرة أولاً عينها على الحاضر الآني بإشكالياته، وما الماضي إلا قناع يتوارى خلفه الراوي، كما أنها لم تعد حكرًا على طبقة السادة، وإنما صارت مشدودة إلى البسيط والعادي، واحتلت الشخصيات المهمَّشة دورًا مُهمًا، كما أن الشيء المهم الذي يشير إلى حجم التحول الذي صارت عليه الرواية التاريخية أنها، لم تعد مجرد مرآة الحقيقة، وإنما صارت بمثابة خطابات مضادة، أو كما تقول هتشون – في مجال حديثها عن رواية ما بعد الحداثة – “الرواية التاريخيّة ليست مرآة الحقيقة، وليست إعادة بناء لها، إنها لا تقوم بذلك، هي تُقدِّم خطابات أخرى، من خلالها نستطيع أن نبني صوراً أخرى لهذه الحقيقة”.
كما غدت الرواية التاريخية متقاطعة مع كافة الأنواع الروائيّة، فهي حاضرة، بكافة الصيغ، تلك هي الرواية، التي تقتطع من مدونة التاريخ أحداثها أو شخصياتها، وإنما صار اللجوء إلى التاريخ لعكس أحداث الحاضر عليه، بعدما صارت حرية التعبير والإبداع على المحك، في ظل توالد دكتاتوريات جديدة، صارت تخشى الكلمة وقوتها. ومن ثم لم يعد أمام المبدع لمحاكمة الواقع (أو تقييمه) إلا التماهي مع التاريخ باستدعاء شخصياته الملهِمة والثورية!
الكاهن السوري
رواية “ملك اللصوص” في أصلها قائمة على وقائع حقيقيّة، متمثِّلة في قصة الكاهن السُّوري (إيونوس الأفامي) الشهير في الأدبيات الغربية بملك اللصوص، الذي يترك بلده سوريا صغيرًا ليلتحق بالمعبد في منبج ليكون كاهنًا؛ ثمّ يصدم بهول ما يرى من انتهاكات الرهبان، وخيانات ودسائس في قصور الملوك، فيقرر العودة إلى بلده مرة ثانية، وفيها يتعرّض للسبي ثمّ البيع في سوق العبيد، إلى أن تتهيّأ له الفرصة لأن يقود أوّل ثورة للعبيد في تاريخ الإمبراطورية الرومانيّة، ويتصدى لمحاولات استردادها من جديد طيلة أربع سنوات؛ فيؤسس على أرض جزيرة صِقِلّيَة سنة 136 قبل الميلاد، مملكة مُستقلَّة للعبيد السوريين، تكون “ملاذًا للحالمين بالحرية كلهم والفارين من ربقة العبودية، أيّا كان جنسهم ولونهم، سيكونون مثلنا مواطنين أحرار سوريين”، وبذلك تكون مملكة للجميع بلا استثناء، تحت شعار “لا عبودية ولا ظلم “فربّتهم هي ربة العدالة، اللافت أن ثورته كانت باعثًا لثورات مماثلة في أماكن مختلفة من أرجاء الإمبراطورية الرومانية، أرقت روما، إلا أنها أخمدتها بالحديد والنار.
هذه هي القماشة التي نسج من خلالها الروائي تيسير خلف الفلسطيني – السوري، أحداث مرويته التاريخية، في بناء متضافر يجمع بين الواقعة التاريخيّة والخيال، ومستنطقًا الشخصيات التاريخيّة، وإن كانت عينه على الواقع الآني بكل إخفاقاته وصراعاته. تبدو الرواية خاصّة مع جملة النهاية أشبه بخطاب تقييمي لهذه الثورة أو خطاب مضاد للشائعات، بناء على سؤال مُحرّض من قبل الحكيم بوسيدونيوس هكذا “أخط الفصل الأخير من قصتي، كما طلبت منِّي، أيها العزيز بوسيدونيوس، بعد أن بلغتك شائعات الرومان الكاذبة حول النهاية المضحكة لملك اللصوص إيُوْنُوْس، الذي هو أنا، في سجن مورغانتينا، حيث التهمني القمل في زنزانتي بعد مدة قصيرة من حبسي مع طباخي وحلاقي ومهرّجي” (الرواية: ص 214).
تبدأ المروية باستهلال على لسان راوٍ غائب/عليم يقدّم الشخصيات الرئيسيّة، في تمثّل لصورة الراوي الشعبي في الحكايات الشعبيّة، الذي يقدّم عناصر حكايته قبل أن يدخل في تفاصيلها، وإن كان يختفي (مع بداية الأحداث على لسان الشخصيّة التي هيّأها الرَّاوي) ليهيمن على السّرد الروائي بالأنا/العائد على الشخصيّة المحوريّة (الكاهن إيونوس)، فيأخذنا في إطار سرد مذوّت عن هذا الطفل الغريب، الذي مر بتجارب متعدّدة ليتهيأ للمهمّة التي جُهِّزَ لها، ونذرته الرَّبَّة لها “بأن يصير الملك المنقذ لشعبه”.
الراوي الغائب العليم يقدّم تهيئة مسرحية للحكاية، على مستوى المكان: (أفاميا القديمة)، وكذلك على مستوى الشخصية الثانوية، التي هي المحفّز للسرد، وأشبه بالملقّن في المسرح، حيث تُحفّز الشخصيّة الرئيسيّة على السرد، ليقول الحكاية الأصليّة بعدما تردّد عليه ما روّجه الرومان من أكاذيب عن نهاية ملك اللصوص. دور هذه الشخصية، لا يتجاوز التحفيز ثم تترك موقعها لتصبح في موقع المروي عليه، بعد أن كانت في موقع الراوي الذي بدأ به السرد في الاستهلال. ثم الشخصية الرئيسيّة التي يأتي تقديمها بصورة مُبهمة وملغزة في الوقت نفسه هكذا “في أفاميا القديمة؛ حيث ولد الفيلسوف والفلكي والمؤرخ السوري الشهير “بُوْسِيْدونُيوس”، عاش رجل معمّر غريب الأطوار وحيدًا في منزل صغير قرب بوابة لاريسا، يخرج في بعض الأيام صباحًا متوكئًا على عصاه الطويلة، ويتجه صوب نهر أورونتس العاصي، حيث يمضي جل وقته قرب شجرة دردار معمرة، وفي المساء يعود إلى بيته من دون أن يكلم أحدًا”.
لا يكتفي الراوي الغائب بهذه التقديمة المسرحية، وإنما يكسر أفق انتظار القارئ، فيقول “وثمة مَن يهمس أيضًا؛ بأنّ ذلك الرجل الغامض كان كاهنًا عاصيًّا، أعطى بوسيدونيوس، قبل أن يموت، سلّة من لفائف البردي، لم يعرف أحد ماذا كتب فيها، ولكن بعض العارفين بخفايا الأمور يقولون إن تلك اللفائف هي أصل حكاية إيونوس الأفامي، ملك اللصوص الذي أقام مملكة مقدسة للعبيد السوريين في جزيرة صقلية “بل يزيل كلامه بتعليق تحفيزي هكذا: وهي حكاية شهيرة كان بوسيدونيوس أول من صاغها بأسلوبه البليغ، وعنه أخذها الجميع” (الرواية : ص7 ).
لكن ما إن ينفصل الراوي المحفّز، وهي حيلة يعتمدها الراوي ليكون ثمة دافع للحكاية؛ يبدأ السرد مع الوحدة الأولى (عين من حجر اللازورد)، حتى يبدأ السارد الأنا بالروي بنفسه بصوت الأنا عن نفسه، عن ولادة الطفل الغريب الذي ولد “بعينين متغايرتين، أدخل الرعب في قلب كل من رآه”، وهو يعتمد كليّة على سرد كرونولوجي مُتصاعد من الميلاد حتى العودة مرة ثانية إلى أفاميا، وإن كان ثمة تقاطعات زمنية، إلا أن الغالب على الزمن هو التصاعدي، وهو مناسب لسيرة بطل يتشكّل، ليصل إلى هدفه أو ما يعدّ له، وخاصة أننا عرفنا ملخص حكايته، ومن ثم التشويق قد انتهى.
يهيمن الراوي بالضمير/الأنا على السّرد، يحكي عبره تفاصيل الحكاية السّيريّة، منذ مرحلة الطفولة، ويعرف بنفسه “ذلك الطفل كان أنا؛ إيونوس ابن مارثا السّاقية في حانة الغرباء، وقد أطلقت أمي عليّ هذا الاسم الذي يعني بلغتنا السورية الأصليّة، عون ومساعدة، وليس إيونوس بمعنى المسلّي، كما يحب الإغريق والرومان أن يسمونني”، ومنذ البداية يعمد الراوي إلى تصحيح الصورة المغلوطة عنه، وتفكيك الروايات المضللة، بدءًا من الاسم الذي يعني في السورية الأصلية “العون والمساعدة” وليس “المسلّي” كما روّج الإغريق والرومان .
هذه الإشارة من الأهمية بمكان، إذْ تؤسس لآلية السرد الذي ينهض بالدفاع عن هذه الشخصية التي تعد وفقًا للأفعال التي قام بها نموذجًا للبطل الأسطوري، إلا أنّ الأدبيات الغربيّة عملت على التضليل والتزييف، فألصقت باسمه اللقب السُّبة (ملك اللصوص)؛ للتقليل من منجزه، وكأن الرواية تضعنا في إشكالية الأنا والآخر، كيف يرانا الآخر، وما هي تصوراته عنّا، وفي أي وضعية يريد أن يرانا؟ وما الهدف من التضليل؟ فرواية ما بعد الحداثة التي تنتمي إليه رواية “ملك اللصوص”، صارت أشبه بخطاب مضاد، يفكك المرويات الزائفة، ومن ثم لجأ المؤلف إلى الضمير الأنا، كي يكون ملاذًا آمنًا في التعبير عن الأنا وتقديم الحجج المضادة الرائجة، ومن ثم نرى السارد/الأنا على طول السرد، يقطع السرد، ليصحح بعض المعلومات، أو يكذب ما راج، أو يُعلِّق على ما حدث سواء بالرفض له أو بالتصديق على أفعال البعض، خاصّة شريكه آرخيوس.
ميلاد البطل
وفقًا لأدبيات السيرة الشعبيّة يتمُّ إعداد البطل بطقسيّة تتلاءم مع المهمّة المكلّف بها، وهنا يتمّ تهيئة البطل لهذه المهمّة عبر أربع مراحل هي كالتالي: الطفولة في أفاميا، وفيها يتوقف الراوي الأنا كثيرًا عند المخاض والولادة، وكأنّنا هنا أمام ميلاد بطل أسطوري حسب ما هو سائد في الأساطير أو الحكايات الشعبيّة؛ حيث مولد البطل يُعدُّ الحدث الأهم، والأهم أن مولد البطل في مثل هذه المرويات يرتبط دومًا بنبوءة أو شيء غرائبي، وفي مولد البطل ثمّة فعل أسطوري خارق، لا يحدث إلا صدفة؛ فالطفل ابن لأب التقته الأم مرة واحدة، فأحبته من النظرة الأولى، حيث بدا لها “بشعره الطويل الملتف مثل الخواتم، ولحيته الشعثاء، المهملة، وجسده النحيل نصف العاري، أشبه بالإله ديونيسيوس حاملاً قرن الغزال المترع خمرًا، ساخرًا من كل شيء” ثم يودعه في أحشائها ويرحل خلسة، ليترك الأم وابنها لمصيرهما، وكأن الآلهة أرسلته فقط ليلقي البذرة.
يولد البطل – رغمًا – مع كل المحاولات الفاشلة للأم – غير الراغبة في الطفل – لإسقاط نفسها، وقدومه لم يكن بالأمر السهل، فالأم عانت كثيرًا، وكادت روحها “أن تزهق أكثر من مرة”، وبينما هي في لحظة بين الحياة والموت، كانت “ثمة قوة خفيّة تنتشر من أحشائها إلى باقي جسدها؛ تعيدها إلى وعيها من جديد”، ولم تتم الولادة إلا بعد أن وضعت ثوبها “على تمثال أرتميس”، كل ما يتعلّق بالميلاد خارق، ويكتمل الفعل الأسطوري، بالشكل الذي وُلِد عليه الطفل، الذي صار بيتهم مقصدًا للجميع من المدن المجاورة من أجل الفرجة على الطفل الغريب “ذي العينين المتغايرتين”، حيث إن “له عينًا مقدودة من حجر اللازورد، وأخرى من حجر الياقوت” (الرواية : ص 12).
يمرُّ الطفل بكلِّ مراحل البطل/في السّير الشعبيّة والأساطير؛ الميلاد والرحلة والعودة، فثمّة سمات تلحقه بهؤلاء الأبطال، كالشعور بالاغتراب، فهو منذ طفولته تخلّى الأب عنه ثمّ الأم، بأنْ أعطته الأم مارثا “لأمه شمشي كي تمنع النظرات المتطفلة”، وكذلك ما يمتلكه من طبائع غريبة لا يمتلكها أي طفل، فلا يبكي “وإن استبدّ به الجوع أو العطش”، كما أنه لم يصب بمرض أو حمى كسائر الأطفال، حتى في ظل الجوائح التي تفتك بالصغار. هذه الخصائص ليست مجانية أو حتى جاءت عن طريق الصدفة، وإنما هي بقصد تهيئة البطل لشأن عظيم، حيث – كما أخبرها كاهن معبد الربّة أترعتا -“ثمّة شيء كبير ينتظره هناك” (الرواية ص: 12)، ومن ثمّ كانت المرحلة الثانية في الانتقال إلى منبج التي تسمى هيرابوليس “لينشأ في حمى الربّة” أو كإعداد روحي لهذه المهمة. فما إن تحين اللحظة حتى تسترده أمه من الأم شمشي، وتذهب به مع قافلة من الزوّار الذاهبين للمشاركة في عيد المشاعل الكبير، وعندما وصلت إلى مشارف المدنية المقدسة، حلقت له شعره وألبسته ثوب الكتان المصفرّ، ليكون منذورًا للآلهة.
كانت المرحلة (الثانية) مرحلة الإعداد الروحي؛ بمثابة الاختبار له من خلال علاقته بالرهبان، ورفضه الانصياع للابتزاز الذي مورس عليه، ليكون شاذًا؛ فاضطر إلى الهروب بالتخلّي عن الكهانة، والعودة إلى بيت أمه من جديد، بعد رحلة اختلط فيها الشك باليقين، وتعرية رجال الدين وأفعالهم الدنيئة، ثمّ ما اطّلع عليه من مؤامرات ودسائس عندما صار كاهنًا في القصر الملكي والأخ الراعي للملك الصغير أنطيوخس ديونيسيوس، بعد أن تحققت رؤيته للملكة (كليوبتراثيا)، ثم مغادرته القصر إلى بلده.
ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الأَسْر، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة الإعداد البدني والتهيئة للتكليف، إذ نراه هو الذي يُقْدم عليها، فيحثّ الفرسان الثلاثة الذين التقاهم وهو يسبح، على أخذه: “ها أنذا آتٍ إليكم” (الرواية: ص 46)، وبالفعل يتمّ أسره، إلى أن يعرض في سوق النخاسة على يد النخاس أرخيلوس، وفي هذه المرحلة يكشف لنا الانتهاكات التي تعرض لها السوريون في رحلات الأسر، من جوع وضرب، وتقييد بالسلاسل، إلى مرحلة البيع بعرضهم في سلاسل حسب تصنيفهم أمام الراغبين في شرائهم. ثم يسرد جانبًا من الاضطهاد الذي يعانيه العبيد في خدمة أسيادهم الجدد، كل هذا كان مقدمة وتهيئة للفعل الذي كان يعدُّ له البطل، بأن يصير ملكًا ويؤسس أول مملكة للعبيد في صقلية.
أما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة تأسيس المملكة، وهي مرحلة مهمة؛ إذ تكشف المروية وهي تسرد عن رحلة البطل في سبيل الوصول إلى تأسيس مملكته المقدّسة إلى الصّراعات والمؤامرات والتحالفات بين الملوك من أجل العروش (ألكسندر بالاس الذي فرّ من أرض المعركة ولاذ بصديقه ملك العرب زيد إيل” وسوف يعيده إلى أنطاكيا، فما كان من زيد إيل أن باعه لحليفه ملك مصر، فحز رأسه وأرسلها إلى صديقه، والخيانات التي كانت تحدث، فحكاية الملكة سترتونيكي نموذج على الخيانة والغدر، وأيضًا الصراعات الداخليّة لدى الجماعات، عبر الاختلافات بين طبيعة الجاليين والمتنبيئن من أتباع هيرميس.
الأسطوري والواقعي
يتداخل الواقعي مع الأسطوري في النص، في مزيج عجيب، ليكشف ثراء هذه البقعة تاريخيًّا وثقافيًّا، عبر لغة تتساوق مع التاريخ باستعارة مفرداته كما في العملة، وإن كانت اللغة جاءت بمستوى واحد، وكأن الشخصيات متساوية ثقافيًّا وأيديولوجيا، دون مراعاة خطاب المتحدث.
المتأمّل في تكوين البطل وخلق البطل الأسطوري في المرويات الشعبيّة كسير عنترة بن شداد وسيف بن زي يزن وحمزة البهلوان وغيرهم، أو الأساطير الإغريقيّة كما في الأوديسة والإلياذة والإنيادة، يجد أن النبوءة تلعب دورًا كبيرًا، في التحويل الذي يلحق البطل وإخراجه كما يقول أحمد شمس الدين الحجاجي في “مولد البطل في السيرة الشعبية” من حيز الإنسان العادي إلى حيز الإنسان الأسطوري، أي من الواقعي إلى الأسطوري، كما أن نبوءة البطل هي مدخله إلى عالم الخير والحق، ففي النبوءة يحدد الاتجاه الذي يسير منه مستقبله، لتدخله عالم القداسة.
وفي نص تيسير خلف، تلعب النبوءة ورديفها الرؤية الدور المحوري في بناء النص؛ فالنبوءة هي نقطة التحوّل في كل مرحلة من مراحل حياة إيونوس، فهي التي أنقذته من عربدة رهبان الفالوس، وأيضًا أنقذته من موت محقّق، وقادته إلى أن يكون ملكًا بعد أن كان عبدًا، فمنذ طفولة إيونوس تنبّأ كاهن معبد الربّة أترعتا، بأنه سينتظره شيء عظيم، ومن ثم أوصى بأن يذهب إلى منبج “لينشأ في حمى الربّة”، وهو المعبد الذي رأت سترانونيكي زوجة ملك مقدونيا ديمتريوس إيتوليكوس، في منامها “أن الربة أترعتا أمرتها ببناء معبد في منبج مدينتها المقدّسة، وإن لم تفعل، فستحل بها شرور كثيرة” (الرواية: ص 20).
وبعد هروبه من رهبان الفالُوس، التقى الملكة كليوبتراثيا في عيد المشاعل الكبير، يومها كان جالسًا أمام تمثال الربّة، ودخلت الملكة عليه في الحرم، وطلبت منه أن يسأل الربّة عن قادم أيامها؟ ورأى فيما يرى النائم أن المرأة التي دخلت عليه سوف “تلقي تاجًا ملكيًّا في بركة من الدم”(الرواية: ص 33)، ثم بصورة أوضح كما قال لها “ستُبَدلين بتاج قديم تاجًا جديدًا”، وعندما تتحقّق نبوءته، استدعته على عجل ليكون “كاهنًا في القصر الملكي، والأخ الراعي للملك الصغير”.
تلاحقه النبوءة في كل مرحلة من مراحل إعداده للمهمّة، فعندما يُساق للرق ويدعوه المحاسب المالي كي يُجهّز نفسه، وضمنيًّا أخبره ربما لا يعود إلى الفيلا مرة ثانية، لأنّ السّعر الذي حدّده السيد أرخيلوس كبير، وسوق عبيد المنازل كاسدة، لكن إيونوس يرد عليه بثقة “أظن أن الصفقة ستتم اليوم” (الرواية: ص 70)، وبالفعل تتحقّق النبوءة، وتتم الصفقة.
أما النبوءة التي أنقذته من الموت، فبعد بيعه لأنتيغينس، يدور بينهما حوار عن سبب شرائه:
- فسأله صراحة: أنتَ ماذا تريد مني بالضبط يا… يا سيدي؟
- فأجابه بعد أن تلكأ: حقًا لا أعرف ماذا أريد منك، ولا أعرف أصلا كيف دفعت فيك ذلك الثمن الباهظ؟ ولماذا؟
وعندما سأله :
- ألا تريد أن تخبرني ماذا تجيد أيها العبد الوقح؟
- قال في ثقة: أجيد التنبؤ، وإقامة سر الذبيحة يا… يا سيدي.( الرواية: ص 79).
لكن الجواب استثار غضب أنتيغينس وقام بضربه ضربًا شديدًا، بل هدّده بأن يجعله عبرة لكل عبيد إينّا، وبالفعل دخل في مرحلة التعنيف والإيذاء، ولم يتوقف عن عقابه إلا بعدما أخبره بسر السفينة التي ستلقي بضاعتها في الماء كي تُنْقذ، هكذا “ستنجو السفينة ويغرق القمح” (الرواية: ص 80).
ثم مرة ثانية، بأن أنقذ أنتيغينس من الموت بعد أن رأى “الربّة وهي قابضة على أنتيغينس وهو يحاول الإفلات منها”. وعبر النبوءة جاء التكليف بالمهمة، فدعته الربة “اذهب إلى شجرة الدردار عند ضفة البحيرة واعثر على بيتي هناك يا إيونوس”، وقبل أن تحدث السخرية في الحفلة الأخيرة التي أقامها أنتيغينس، وقبل مغادرته القصر بيوم واحد، تجلّت له الربّة، وصاحت فيه بصوت عالٍ قائلة “انهض، أيها الملك أنطيوخس، وَقُدْ شعبك” (الرواية: ص88)، في إشارة إلى الثورة والتمرد على النظام الروماني وتحرير العبيد، وهو ما تحقّق له بأن أسس أوّل مملكة للعبيد في صقِليّة.
يستعرض الراوي/الأنا في جزءِ مُهم من سرده، نمط الحياة في هذه المملكة، والصراعات التي شبّت بين الشركاء الأربعة، وكيف تعايش الناس مع الواقع الجديد، وهم يتحررون من العبودية، وكيف تغلّبوا على المشاكل التي واجهت الاستقلال، حيث مرّ العام الأوّل بسلامٍ ونجاحٍ، فكلّ المشاكل كانت تجد لها طريقًا إلى الحل. وما عانته من حملات من الرومان في محاولات لتقويض المملكة المنشقة واستردادها، وقد باءت بالفشل في جميعها، والاستيلاء على المدن الرومانيّة واحدة تلو الأخرى خاصة بعد هزيمة القائد فلاكوس المخزية، فتوالى سقوط المدن.
ثمة دور آخر للراوي الأنا، يظهر باطّراد، فهو لا يكتفي بسرد الماضي، وإنما يعمد إلى تقييم التجربة بكل ما فيها من مزايا وعيوب، ونراه قاسيا على ذاته خاصة في مرحلة الثورة والتمرد، والتي كشفتْ حكم النفس البشرية غير المنزّه عن الأنا وحبّ السيطرة، فالشقاق بين الشركاء الأربعة كشف عن المطامع الشخصيّة، كما تصوّر الرواية في أحد جوانبها حالة البؤس التي تعيشها الشعوب العربية تحت ظلم حكامها الذين لا همّ لهم إلا مصالحهم ولا ينشغلون بحماية مدنهم وشعوبهم، الشيء الوحيد الذي يثير حفيظتهم إذا ثار الشعب ضدّ ظلمهم، فلا يتهاونون في عقابه عقابًا جماعيًّا، على نحو ما فعل الملك ديمتريوس عندما ثار الأنطاكيون عليه، فلم يجد بدًّا كدفاع عن نفسه إلّا أن “سلط زبانيته عليهم، فأحرقوا المدينة بما فيها” (الرواية: ص 60).
وهذه الصورة المقزّزة بمثابة إدانة للحكم العربي (في جميع عصوره)، ويمكن القول بأنّها صورة ممتدة ليست مقتصرة على زمن الحكاية، فالتأسّي الذي يُعبّر به الرّاوي عن حال الشباب السُّوري وهو في الأسر مُهان بعبارة مؤثرة “شقيّة أنت يا سوريا فشبابك باتوا أسرى من دون حروب”، أشبه بمرثية لا على حال هؤلاء الشباب الذين صاروا عبيدًا، وإنما أيضًا تمتد لتصبح مرثية لمآل الملايين من المشردين في كل أصقاع الأرض بعد التغريبة الحديثة، والتي لم يكن سببها (مع الأسف) تجّار الرقيق، وإنما ظُلم الحكام الذي هو قاسم مشترك بين تغريبة الماضي والحاضر. كما تمتد الإدانة إلى انتقاده للحكام المقدونيين الذين انصرفوا عن حماية المدن وأهلها لأشياء أخرى غير هذا، فالحكام اعتمدوا على غيرهم في حماية شعوبهم، على نحو ما ذكر إيونوس أثناء رحلته هو وأمه من أفاميا إلى منبج كانت القافلة محمية من أبناء القبائل العربية المخيّمة شمال المدينة، ومن قبل كانت تسير بحماية قوات عسكرية تابعة للحرس الملكي، نفس الشيء تكرّر أثناء العودة من أنطاكيا إلى أفاميا، كان حماتها فرسانا من رجال الشيخ يمليخوس صاحب السطوة في هذه البلاد.
وكأنّ الرواية تدين تخاذل الحكام في الزمنين (زمن الحكاية/وزمن الكتابة والقراءة)، في الماضي انعكس تخاذلهم على الشخصية السورية، فجُبلت على الخنوع، فهؤلاء الحكام (كما تقول الرواية) هم من تركوهم نهبًا للمرتزقة وعصابات الخطف من قراصنة قيليقيا. وبقدر ما ثمنت الدور الذي لعبته الجيوش باعتبارها المنقذ دومًا للشعوب من ظُلم الحكّام، فيلوذ أبناء الوطن بقادة الجيش عندما تضيق بهم السُّبل، وعندما غضب ملك أنطاكيا وأحرق زبانيته المدينة عليهم، لم يجد الناس أمامهم إلا قائدا من قادة الجيش المسرّحين، وهو الجنرال ديودوتوس الأفامي، فعقدوا عليه الآمال ووضعوا ثقتهم به، وبالفعل لبّى القائد نداء الشعب، وأعلن نفسه حاميًّا وراعيا لملك الصغير أنطيوخوس ديونيسيوس، وأوصله وأمه الملكة كليوبتراثيا إلى ملك العرب زيد إيل لحمايتهما من جنون ديمتريوس المنتصر.
ومع هذا التثمين لدور قادة الجيش، إلا أن الرواية تؤكد على أنه يجب أن يؤخذ بعين الحذر الإفراط في الأمان، فمع الأسف ما إن استتب الأمر للقائد الذي لاذ به الجميع، سرعان ما خيّب آمالهم، فقتل الملك الصغير، وصيّر نفسه ملكًا ثانيًّا لسوريا باسم تريفون الطاغية، وعندما دبت الفوضى في أركان البلاد وفقدانه لتأييد الناس لم يجد غير المرتزقة الكريتيين ليحتمي بهم، فقاسموا التجار على بضائعهم والمزارعين على المحاصيل والرعاة على قطعانهم . كما أن الجيش الذي يجب أن يكون مظلةَ أمانٍ لكلّ فرد، تحوّل مع الوقت إلى مجموعة من اللصوص الأوغاد، “المرتعدين داخل أسوار المدن، فماتت ضمائرهم وانعدم شرفهم واحترفوا سرقة الدجاج من بيوت الفقراء، بدل مواجهة قطْع دابر لصوص الداخل ومواجهة أعداء الخارج، والانتصار عليهم في المعارك” (الرواية: ص 69). وفي موضع آخر تظهر الرواية الجنود وهم مشغولون بجباية النقود وفرض الإتاوات على أهالي المدن المسورة الخاضعة لهم، أما خارج هذه المدن فلا سلطة لهم حتى على أنفسهم.
تُثمِّن الرواية إرادة الشعوب في حماية أنفسها؛ فالقيليقيون نجحوا في حماية أبنائهم من الاختطاف، بعد أن قرروا إدارة ظهورهم للحكام والخروج بأنفسهم في جماعات مسلّحة بالسيوف والخناجر والهراوي فنصبوا الفخاخ لهم، وبالفعل استطاعوا أن يجهزوا عليهم، ومَن ينجوا من القتل يُساق إلى ساحة من ساحات بوسيدونياس، وأدانا، وأنازاربيوس، وغيرها من مدن قيليقيا ويعلّق على خشبة حتى يموت ببطء وتنهشه العقبان الجائعة.
كما تشيد الرواية بالسوريين وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم على الرغم من المحن التي مروا بها، وهذه الصفات هي التي جعلت النخاس إرخيلوس يشتري العبيد السوريين؛ فالأثرياء الصقليون يدفعون في العبد السوري ضعف ما يدفعونه في أيّ عبد آخر، والسبب على نحو ما فسّر الشابان الأنطاكي والأفامي يعود إلى “الفارق الحضاري، فالسوريون أذكى من غيرهم ويتلقون تربية رفيعة في منازلهم. وهذه التربية تعادل الكثير من النقود فيما لو اشتروا عبيدًا من بلاد بربرية. قد تفلح التربية فيهم وقد لا تفلح” (الرواية: ص67).
ثورة في كل الاتجاهات
كثيرة هي المرويات التي تحدثت عن الصُّورة السّلبيّة لرجال الدين الإسلامي، وتجارتهم بالدين، وسعيهم لاستغلال العقليات الساذجة لترويج أفكارهم، ولكن من النادر أن نجد انتقادًا لأهل الديانات الأخرى، أو محاولة تقديم صورة داخليّة مُقرّبة عنهم خلافًا لما هو شائع عنهم، وعندما غامر يوسف زيدان في مرويته “عزازيل” (2008)، وتعرّض للصراعات الدينيّة بين المذاهب المسيحيّة، والحركات المتطرّفة، وقتها قامت الدنيا ولم تقعد، هنا في مروية تيسير خلف، يتطرّق الرّاوي إلى الحياة السّرية التي يعيشها الرهبان، وأفعالهم المنافية للأخلاق والتعاليم الدينيّة، فيكشف النّقاب عن الشذوذ الجنسي الذي يروّج له بعض الكهنة، بالدعوة إلى العيش في المتعتين، والابتزاز باسم الدين على نحو ما عبّر الكاهن الفالُوس وفي بعضها تفنّد الرواية الأقاويل والحكايات عن الكهان وما ارتبط بهم من قصص جنسيّة مسرفة في الخيال، وشيوع حياة البذخ في صورة مناقضة لما يدعون إليه.
ثورة البطل على الظلم الروماني، سبقتها ثورة أخرى على سُلطة رجال الدين من الكهنة والرهبان واستغلالهم للدين، واعتبار أنفسهم وسطاء بين الربّة والناس، وما هم إلا مستغلون مغرقون في الملذات والشذوذ، فيصرخ محتجًا رافضًا الخضوع لإمرة أحد، عندها يلقب بالكاهن العاصي، فيقرّر عدم العودة إلى النظام الكهنوتي. كما تأخذ تساؤلاته منحى يتجاوز زمن السياق الذي قيل فيه، ليمتد إلى كلّ زمن يستبدُّ فيه رجال الدين، وتزداد سطوتهم باسم الرب والآلهة، وقد يبدو تساؤله الغاضب منطقيًّا في زمننا أيضًا “هل تحتاج الربّة إلى تراتب كهنوتي سخيف؟ ثم من هم هؤلاء الكهنة؟”. فالأصوب إنهم “مجرد موظفين منتفعين من رتبهم الكهنوتية، يعيش رؤساؤهم كما يعيش الملوك، وينفقون تبرعات الرعية على ملذاتهم”، والخلاصة بعد أن خبرهم كثيرًا “إنهم عصبة من اللّصوص السّفلة، يكاد الصادق فيهم أن يكون عملة نادرة” (الرواية: ص 44)، ويستكمل ثورته صارخًا “ما حاجة الربّة لهذا الصف الطويل العريض من رؤساء الكهنة ومساعديهم ووكلائهم؟” (الرواية: ص44).
تتعدّد صور الابتزاز التي يُمارسها رجال الدين، من الكهنة والرهبان، ما بين ابتزاز جنسي يقوم به رهبان الفالُوس في معبد منبج بإجبارهم الفتية الصغار على الامتثال لشهواتهم الدنيئة، وابتزاز مالي حيث كان راهب أنطاكيا الأكبر، يتفق مع التجار العرب على أسعار المر والبخور واللبان من وراء ظهر المعتمد المالي للقصر، كما كان يسوّق تبرعات المؤمنين، ويجمعها في جرار النبيذ الفارغة بعد انتهاء طقوس العيد، ليرسلها مع أوثق مساعديه إلى مزرعته خارج المدينة”. (الرواية: ص44)، علاوة على الخيانة فكاهن أنطاكيا ساعد على اغتيال الملك الصغير، هو وطبيب القصر، ليكسب ثقة الخائن ديودوتوس.
لا تغفل الرواية دور المرأة بصفة عامّة، فأم الكاهن إيونوس تدفع به إلى المعبد لتعدّه ليكون كاهنًا، والملكة كليوبتراثا تستعين بمن يساعدها على إنقاذ مُلك أبيها، ولكن أجلّ صورة للمرأة تمثّلت في صورة الملكة بيرثا أو الربة بيرثا كما كان يناديها إيونوس، فقد لعبت دورًا كبيرًا على المستوى المعنوي، في تثبيته ودعمه، ليتجاوز ما حدث من خلافات بين الشركاء، ثم بالرأي والأفكار والخطط التي استطاعت أن تُسهّل له الكثير من القرارات، فهي كانت وراء إنشاء قانون باسم الربّة ليكون بمثابة الدستور للجزيرة، ثم رأيها بتحويل معبد الربّة الإغريقية ديميتر، إلى معبد الربّة، ثم ما فعلته لحماية زوجها من شر آخيوس وألاعيبه المستترة، فتخلّصت منه، وعندما استغلّ آخيوس المسرح ليقوم بمعارضة إيونوس، كان رأيها إقامة طقس الذبيحة غير الدموية مرتين في اليوم صباحًا ومساءً، وبذلك ينشغل الناس عن آخيوس ومسرحه ومحاكمته.
أكدت الرواية بعبارة صريحة، أهمية الفن في توعية الجماهير، واعتباره أداة من أدوات القوى الناعمة الفاعلة التي لها بالغ التأثير في تسويق القضايا المهمّة والخطيرة، وهو ما فطن إليه الشريك المنشق “آخيوس” فاستغلها في معارضة السُّلطة، بإظهار مساوئها، عبر عروض تشويقيّة على المسرح، وهو ما التفتَ إليه إيونوس فيما بعد وسعى للهيمنة عليه بحجّة أنّ المسرح مبنى عام، وأنّ أصحاب الحكم/السُّلطة “هم وحدهم من يمنع أو يسمح باعتلاء منصته” (الرواية: ص 170).
سلّطت الرواية وهي تسرد حكايتها الضوء على نمط الحياة التي كان يحياها الرومان في الجزيرة، وكيف كان يعيش أثرياؤها في حالة من البذخ، وكيف أنهم صعدوا من الصفر إلى ما وصلوا إليه، ومن ثمّ صار بعضهم مسرفاً أرعن، وما تعج به لياليهم من حفلات صاخبة ماجنة، يعرضون فيها العبيد وهو يرقصون عرايا، وتتطرق إلى معاملتهم للعبيد التي تصل إلى الجلد مئة جلدة إن عطس في حضوره، كما هو ماثل في نموذج داموفيلوس، وكذلك ما تقوم به زوجة داموفيلوس من بشاعة في معاملة الجواري لديها.
كما يستعرض الظلم الواقع على العبيد، ومع الأسف تؤكده القوانين المنظمة لأهل الجزيرة؛ فالعبد أقرب إلى الحيوان، فهو مجرّد من الذات الإنسانيّة، ولا يحقُّ للعبد التملُّك ولا يستطيع تكوين عائلة، وتخوّل لسيده أن يتصرّف بملكيته، ويتصرف فيه بما يشاء، يستخدمه في أيّ عمل، وأن يؤجره ويرهنه ويبيعه ويهبه لمن يشاء وأن يضربه أو يتلف عضوًا من أعضائه أو يقتله من دون أن يملك أحد الحق في محاسبته، فالعبد بذلك “غير مسؤول أمام القضاء والجرائم التي يرتكبها سيسأل عنها ويحاسب عليها المالك وليس العبد” (الرواية: ص116).
الراوي والمروي عليه
الإلحاح من قبل الراوي على معرفة أسباب الإقبال على العبيد السوريين، وهو ما أكده – فيما بعد- آخيوس (الجندي المثقف) الذي عامله داموفيلوس معاملة مختلفة عن سائر العبيد؛ يرجع إلى الثقافة والنظافة، وهو ما يكشف بصورة غير مباشرة عن أهداف الاستعمار البغيض، فهم يسعون إلى تقويض كل ثقافة تشعرهم بالعجز والنقص، كما يكشف عن الانحياز للشخصية السورية وما تتمتع به من صفات.
يطرد الانحياز للشخصية السورية في السرد، تارة في صيغة تعاطف بإظهار الظلم الذي تعرضوا له من قبل الحكّام، ثم من تجّار الرقيق، وصولاً إلى السّادة الذين اشتروهم بعد رحلة مُهلكة (ومنهكة جسديًّا ومعنويًّا). وتارة في صيغة الدفاع عن الشخصية السورية ورفضه أن يكون الخنوع صفة من صفاتها، فيرفض إيونوس أن يكون سبب إقبال التجار على العبيد السوريين؛ لأنهم أكثر خنوعًا من غيرهم، فالخنوع عنده راجع لخذلان الحكام لهم، ونراه يرفض فكرة الخنوع ويعتبر الكلمة الأصوب هي الصبر، فالسوري “صبور إلى أقصى ما يحتمل الصبر، ولكن في لحظة ما، وعند حدّ معين يتحوّل الصّبر إلى بركان يفوق في اندفاع حممه، بركان إيتنا ذاته”، ومع هذا فيبرر سبب هذا الإقبال والرغبة في الشراء؛ لأن “لديهم قدرة يتفوقون فيها على الجميع بسرعة تأقلمهم مع أي وضع جديد، حتى ولو كان الجحيم ذاته”. (الرواية: ص 100).
هذا الانحياز هو بمثابة تواطؤ الراوي مع الراوي الضمني، وفي نفس الوقت استنكار للمآل الذي آلت إليه هذه الشخصية سواء قديمًا أو حديثًا بسبب التغريبة الأسدية. خاصة أن “مآسي السوري قديمًا وحديثًا لم تجد من يرثيها كما حدث مع العجل” (الرواية: ص 102)، فيتوحد الصوتان صوت الراوي الأنا، والراوي الضمني الذي يعود على المؤلف الخارجي للنص، الذي تواطؤه ظاهر باستعادة هذه الشخصية من التاريخ ونفض التراب عنها، ليقول بصوت عال: ها هو السوري الذي صار مشردًا ولاجئًا، بسب خذلان حكامه، وفي ذات الوقت كأنها بشارة تتنبأ بمستقبل أفضل، فما عاناه إيونوس لا ينبئ بما حقّقه من أن يصير ملكًا سوريًّا لهذه المملكة المقدسة، ومع هذا بإراداته حقق.
ومن ثم يبدو الراوي محاججًا حيث يرد على الآراء ويدافع عنها، ومن ثم صفة الراوي الشعبي هي أكثر الصفات مطابقة له، فالراوي الشعبي الذي يروي قصة البطل، يسمح بتدخلات المروي لهم، ويجيب على أسئلتهم وفي نفس الوقت يقول رأيه بالتأييد أو بالاعتراض، فمنذ البداية يدرك الراوي الأنا أن ثمة مرويًّا عليه يتلّقى منه الحكاية، التي يستعيد أحداثها بعد وقوعها، من هذه اللفائف التي تركها، فنراه يقول “وفي العودة إلى حديثي السابق، أقول إن كومبابوس كان يعرف أنه لن يقوى على مقاومة الملكة، حتى وإن قاومها” (الرواية: ص 21)، بل نراه يتمثّل أصوات شخصياته، فيحكي عنهم بسرد غير مباشر:
- وحين ألحّ عليه صديقه الملك للإفصاح عن سبب اعتذاره، قال: إنه يخشى من سرقة صناديق الذهب والمجوهرات التي سينفقها على بناء المعبد، فهو لن يستطيع تحمُّل هذا العبء كل هذه المسافة في صحراء مخوّفة وسط قبائل العرب البرابرة؛ محترفي السلب.
- ولكن الملك ديمبريوس أصر على صديقه، وقال له:
- لا أثق بأحد غيرك، وممنوع عليك أن ترفض. (الرواية : ص 21).
هنا الراوي الأنا يتحول إلى راوٍ عليم يعلم أكثر مما يتيح له منظور الأنا، فهو شاهد على الحكاية، وناقل للأصوات، وهذا ما يؤكده قوله “مضت سنوات ثلاث على غياب الملكة ستراتونيكي، وكومبابوس في مدينة منبج، واكتمل بناء المعبد كما خطط له، ولكن، في هذه السنوات حصل ما خشيه كومبابوس منذ البداية، إذ بدأت الملكة تُبدي نحوه مشاعر الحب” (الرواية: ص 21).
مرة واحدة يشير إلى مصدر حكايته، وأنه مجرد وسيط في الحكاية، “لقد أخبرني الكهنة الذين قصُّوا علىّ هذه القصة.. تلك هي قصة كومبابوس كما سمعتها من الرهبان ولطالما تأملت هذا التمثال طويلا وسألت”.
وعندما يصل إلى صقلية بعد رحلة الأَسْر، ويتعرّف على عبيد من مملكته، ويخبرهم بأنه سوف يقيم احتفالاً بعيد المشاعل، وينهمكون في الإعداد لتهيئة المكان، وبينما يستعرض الفروق بين التماثيل في منبج وأنطاكية وهنا في صقلية، نراه يتواجه إلى المروي لهم وكأنّه يتذكر أنّه يحكي لهم منذ البداية “وبما أنني ذكرت زيوس، وهو إله لا يمكن لعين أن تخطئه، فسأخبركم من دون أدني حرج بأنني لم أستطع التمييز بينه وبين بوسيدون، ولا بينه وبين ديونيسيوس، أما هيرميس، فهو خيبة الخيبات، إذ طننته حين وقعت عيناي عليه كيوبيد ذلك الطفل الإلهي المشاكس…” (الرواية: ص 85).
يتمثّل الراوي كل صفات الراوي الشعبي، الذي يسرد ويشحذ ذهن الجمهور/المروي عليهم، ليبقى مربوطًا بالأحداث؛ تأمل عندما يأتي ذكر داموفيلوس الشرير يقول “الذي سآتي على ذكره بالتفصيل..” (الرواية: ص 92)، وكأنه يثير أذهانهم لمعرفة المزيد عنه، وبالمثل عند حديثه عن أسباب زيادة أسعار بيع العبيد السوريين فيقول “ولذلك أسباب سآتي على ذكرها؟” (الرواية: ص 98). فالمروي عليه/الجمهور يبقي في انتظار ما لا يعرفه، ووعد الراوي بالإفصاح عنه.
وأحيانا يقطع الراوي الأنا سرد الحكاية ليوضِّح ما غَمُضَ أو يصحّح ما راج زورًا، فبعد أن صار ملكًا واتخذ قصر الحاكم البريتور وزوجته مسكنًا، يقول “وأؤكد أنها لم تكن فكرتي البتة، بل هي فكرة شركائي، ولو كنت طالب سطلة أو مجد كما أشاع البعض، لاستحوذت على قصر داموفيلوس فهو أكثر ضخامة وبذخًا من قصر الحاكم” (الرواية: ص 142).
ومرة أخرى نراه يضع ذاته أمام المرآة، ويقوم بمراجعة لما حدث، تحديدًا أحداث المحاكمات التي تمت في المسرح، فيقول في نبرة أسى وتأسّ:
“والآن، وبعد هذه السنوات، أجدني غير واثق تمامَ الثقة من أن جمهور المسرح كان سعيدًا حقًا بذلك المشهد الدامي، رغم أن المقتول هو داموفيلوس الذي حوّل حياة الكثير من الجالسين إلى حفرة من حُفر هاديس، وحتى لو كان ما رأيته على الوجوه في ذلك اليوم فرح، فهو، من دون شكٍ، فرحٌ مشوبٌ برعب خفي من قادم الأيام” (الرواية: ص 141).
التعليق والاستطراد والتداخلات وغيرها من آليات يُوقف بها الراوي السرد، والتوجه بالحديث المباشر إلى المروي عليهم، بقدر ما هي قربّت الراوي من صفات الراوي الشعبي، الذي يقوم بمثل هذه الأدوار، إلا أنها جاءت متسقة مع الخطاب الذي انتهجته الرواية من تأسيسها، ألا وهو تصحيح الصورة، والدفاع عن شخصية الملك، وتقديم صورة حقيقية غير مُزيفة كما راجت في أدبيات الغرب.
تجسّد الرواية في صورة الصراع أو الشقاق بين الشركاء الأربعة، الدليل العمليّ على ما يعقب الثورات من أزمات وصراعات، ويكون سببًا في انهيار البيت من الداخل، فمع أن أول قرارات التجمع الذي عُقد في المسرح، وحضره الجميع من المحرّرين السّوريين، بتتويج إيونوس الأفامي السوري ملكا عليهم باسم أنطيوخس المنقذ على كامل أرض الجزيرة، كان ديموقراطيًّا، وعاكسًا لتوجهات السياسات الجديدة، لكن سرعان ما دبّ الخلاف بسبب القرارات الفردية، وتحكيم الهوى على العقل والمنطق، فالمحاكمات التي تمت للشخصيات الرومانيّة مثل: أنتيغينس وداموفيلوس وزوجته ميغاليس، كانت غير عادلة ومتعجلة، وخاضعة للأهواء الشخصية، كما إنها لم تنتظر قرار المحكمة المشكّلة للنظر في أمرهم، بل جاءت فردية واندفاعية. وهو ما استغله الشريك الرابع آخيوس حجة للمعارضة، وشق عصا التحالف، فانشغل الجميع بمحاولة رأب الصداع، إلا أن الرتق كان يزيد على الراتق، بسبب توالي القرارات الفردية.
نقطة الخلاف بين الشركاء الأربعة، محورها أن المحاكمات لم تكن من وجهة نظر آرخيوس عادلة، ولم تتمّ بنزاهة وأن الأحكام كانت سريعة ومندفعة، كما أنّ ثمّة تجاوزات من قبل بعض الرّجال بسبب الاعتداء على النساء والأطفال، وهذا على غير ما اتفقوا عليه، ومن ثمّ كما طالب بنبرة فيها جِدّة وإصرار، محاكمة هؤلاء الرجال، إلا أن الاعتراض كان من الثلاثة، بأنهم كيف يحاكمون رجالهم، وتارة بأنه يجب عليهم أولاً أن ينتهوا من تحرير الجزيرة ثمّ يتفرغوا لهذا الأمر، وهو ما رفضه آرخيوس. آراء آرخيوس مستمّدَة من كونه جنديًّا مثقفًا سابقًا، وأنه كان صاحب قراءات وثقافة، ورؤيته تنطبق مع المثقف الواعي، الذي يؤمن بمبادئ العدالة.
هذه الصراعات كانت لها نتائجها السلبية بأن تغافل أصحاب القرار عن تأمين الجبهة الداخلية، ومن ثم كانت الثغرة التي أدت إلى الهزيمة، وتقويض حكم الملك في جزيرة صقلية، كما أنها أكدت على أن أهم نقطة أو ثغرة تتمثّل في مخاطر الانفتاح الذي يحدث بعد الثورات، في صورة الأعداد المتزايدة من الرجال، الذين يرغبون في الانضمام إلى القوات دون التحقق من ماهيتهم ودوافعهم، فهم من القراصنة الذين تقطعت بهم السبل، وهو ما يتوازى مع وضعية المرتزقة في العصر الحالي.
تتبنّى الرواية خطابًا معتدلاً، يرفض الترهيب باسم الدين، لمهاجمة الخصوم والمعارضين، فالتهمة التي وجهها إيونوس إلى أنتيغينس سيده القديم، تكشف كيف يمكن استغلال الدين لاستعداء الآخرين على الشخص، فاتهمه بأنه سخر من الربَّة، وهي تماثل الآن ازدراء الأديان، وهي التهمة/السوط المسلّط على رقاب جميع المخالفين في الدولة الدينيّة/الثيوقراطية، وبالمثل تمّ قتل داموفيلوس بحجة أيضا أنه “سخر من قوانين الربّة” (الرواية : ص 140).
تبرز الرواية مساوئ الفردية (وهي إدانة ممتدة تشمل الماضي والحاضر) التي تعامل بها الثوّار، فأول شيء فكر فيه إيونوس هو تحرير بيرثا من الأسر، وبالمثل كانت فردية آخيوس هو تنفيذ قرارته هو دون الأخذ برأي الأغلبية، كل هذا كان بداية الانهيار من الداخل.
تستنكر الرواية عاطفة الشعوب التي تعمل على صناعة الرب الإله، أو الحكام الدكتاتوريين/الطغاة، فالشعب هو الذي يسبغ عليهم صفات القداسة، والقدرة على فعل كل شيء، فما إن توّج إيونوس ملكًا، حتى أراد الجميع أن يضع السلطات بين يديه، فيطالبونه بأن يكون هو رئيس المحكمة التي شكلت لمحاسبة القادة الرومان، وإن كان رفض، ثم في مرحلة لاحقة يتم اختراع “موكب النصر”، كنوع من العزلة والتمييز، حيث انتدب زيوكسيس عشرة من رجاله لحماية إيونوس ومرافقته أينما ذهب. وهو ما أخذه عليهم آخيوس بل اعتبره تمهيدًا مبكرًا لانعزاله الحتمي عن الناس. ومن تعاظم سلطات يتخذ إيونوس قرار عفوه عن القائد الروماني جورجيوس الذي كان متعاطفا معهم.
على الجملة، قدّمت المروية، وهي تتمثّل لشخصية منسيّة من التاريخ أو هُمشّت بتعمّد وقصد، المأزق السوري قديمًا وحديثًا، وما حاق بالشخصية السورية من امتهان، ومحاولات – متعدّدة – لطمس هويتها، وتشويهها، وقد تضافرت عوامل كثيرة ساهمتْ في هذا، إلّا أنّ الرواية أكدت باستعادة هذه السيرة، أهمية الفرد في تجاوز كافة الأزمات، وقدرته في أن يحيا من جديد، متجاوزًا كافة الأزمات، متوسِّدًا بتاريخه وحضارته وثقافته، ثم بإيمانه بذاته وبالحب الذي يقويه لصنع المعجزات، وأيضًا بتطلعاته في أن يخلق عالمًا رحبًا يسع الجميع، ويستظل بمظلة العدالة والأمن بمفهومه السياسي والاجتماعي والديني، وهو لن يتحقق إلا بقوانين عادلة، ودين يُعلى من قيمة الإنسان، لا يحطُّ من مكانته وكرامته وإنسانيته، بابتزازه جنسيًّا أو استغلاله ماليًّا، أو حتى يكون سيفًا مُسلّطًا عليه، بتصيّد أخطائه، والتربّص بأفعاله. كما تحثّ على الإخلاص للهدف، والعمل على تحقيقه بصبر واستماته، وغضّ الطرف عن الإحباطات أو العراقيل، بل واعتبارها الوقود والحافز للوصول إليه. ومع كافة الإحباطات والظلم الذي ساد، إلا أن المروية نأت عن السوداوية والضبابية، والخطابات المحبطة، بل على العكس دفعت بكل قوة عبر شخصياتها التي لم تستسلم لظروف قهرها المرغمة عليها، لتحيي الأمل، وتجدّد الثّقة في الإنسان وكونه قادرًا على أن يصنعَ الأفضل مهما كان النفق مُعتمًا لا يُنذر ببصيص ضوء في أوّله ولا آخره، فالرواية أولاً وأخيرًا أكدت أهمية الإنسان وقدراته اللامحدودة في أن يصنع عالمًا أفضل له وللمحيطين به، وهي رسالة الأمل، أو البشارة التي ترسلها إلى قارئها وتحديدًا إلى المقهورين والمشردين واللاجئين والمنفيين، والتي مفادها: ألا تيأسوا… لعل الفرج قريب!