من وقف الحرب إلى آليّات السلام

وقفُ إطلاق النار ليس إحلالاً للسلام. فالصراع يمكن أن يعود بعد الهدنة بشكلٍ أقسى وأشدّ عنفاً. لماذا إذاً كلّ هذا التشنّج وكلّ هذه الصعوبات لتطبيق اتفاق وقف الأعمال الحربيّة بين الولايات المتحدة وروسيا؟ وما الذي يحويه هذا الاتفاق من آليّات يُمكن أن تُحدِث تغييراً حقيقيّاً في ديناميّات الحرب وطموحات المتصارعين في الفترة المقبلة؟ علماً أنّ تلك الفترة ستكون فترة غياب للإدارة الأميركيّة من جرّاء الانتخابات الرئاسيّة.

الأحداث التي تلت توقيع الاتفاق الروسي الأميركي في منتهى الغرابة. ميدانيّاً قصفت قوّات أميركيّة الجيش السوري في دير الزور، المكان الوحيد الذي تبدو فيه السلطة السوريّة في صراعٍ واضح مع «الدولة الإسلاميّة». وتعرّضت قافلة للإغاثة متوجّهة إلى شرق حلب لهجوم ذهب أغلب ضحاياه من «الهلال الأحمر السوريّ» الذي تتّهمه «المعارضة» بأنّه مخترق من أجهزة أمن السلطة. أخطاء غريبة، كما يقولون، يُلقي كلّ طرفٍ مسؤوليّتها على الآخر.

على الصعيد السياسيّ، القوى التي كانت تنتقد تفرّد الولايات المتحدة وروسيا بالاتفاق وإبقاء بنوده سريّة تعود لتتمسّك بهذا الاتفاق وبضرورة تنفيذه، وتُعلن عن إحباطها من النقاشات حوله، من دون أن تعرف بالضبط مضمونه الحقيقيّ. وهرج ومرجٌ في اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة من دون إيمانٍ لأحد في أنّ قراراً لمجلس الأمن يُمكن أن يُتوّج الاتفاق الروسي – الأميركيّ. كلّ ذلك في مشهدٍ ديبلوماسيّ لتنافرٍ بين القوّتين الكبيريين، لا يبدو أنّه يتعلّق بمجرّد وقفٍ لإطلاق النار ولبضعة أيّام. فما هي الرهانات الحقيقيّة إذاً؟

يتّفق كثيرون على أنّ الصراع السوريّ أضحى صراعاً إقليميّاً دوليّاً وقوده السوريّون. كان توافق «جنيف 1» العام 2012 قد أخرج إيران من المعادلة برغم أنّها عنصر أساسيّ في الصراع، ثمّ أعادتها بعد توافقات فيينّا التي تمّ تكريسها بقرارٍ من مجلس الأمن، لينتهي الأمر بوضع مصير سوريا بيد قوّتين وحيدتين من المفترض أن تُلزِم كلّ منهما حلفاءها المفترضين ـ كما أجهزتها الداخليّة المتناقضة في توجّهاتها ـ بتنفيذ القرار. ما يعني تبسيطاً للصراع لحصره بين هاتين القوّتين.

إلاّ أنّ هذا الأمر لن يمرّ بسهولة، لأنّ هناك قوى استثمرت في الصراع وتبحث عن عائدٍ من استثماراتها. علماً أن اثنتين من هذه القوى، تركيا وإيران، انخرطتا في الآليّة الروسية – الأميركيّة لأسبابٍ متعدّدة، ولن تذهبا إلى مواجهةٍ مباشرة كانت ستؤديّ إليها المواجهات شبه المباشرة التي طبعت مراحل طويلة من الحرب السوريّة.

سوريّاً لا تبدو السلطة السوريّة مسرورة كثيراً ممّا يحدث، برغم ما تعتبره إنجازات على الأرض. ومن هنا يأتي منحاها المستمرّ نحو التصعيد. إذ إنها أيضاً لا تعلم ما وراء الاتفاق الروسي – الأميركيّ. صحيحٌ أنّ روسيا تحرص على الاعتماد على شرعيّة الدولة السوريّة وسبل التغيير، لكنّها تعرف أيضاً أنّها لن تستطيع أن تصنع استقراراً يحمي مصالحها التي أضحت رئيسة من دون إحداث تغييرٍ حقيقيّ في وقتٍ ما. كما أنّ الولايات المتحدة تعرف جيّداً أنّ ما أسّسته الدول المناهضة للسلطة السوريّة لا يُمكن الاعتماد عليه كي يكون حاملاً معقولاً للتغيير.

لننتظر إذاً ما ستأتي به القوّتان الكبيرتان، وما يمكن أن تحويه آليّات ما بعد وقف القتال، لأنّ عدم اتفاقهما سيأتي بتصعيدٍ عسكريّ أكبر، وبأوضاعٍ في سوريا أسوأ ممّا هي عليه. والأنجع للسوريين اليوم أن يلتفتوا إلى آليّات السلام الممكن بدلاً من المساهمة في التصعيد.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى