كتاب الموقعنوافذ

موت القلب

موت القلب

“شاهدت أمواتاً هاربين من المستقبل”

كالعادة، يسأل الخليفة (خليفة ما) من العصور الذهبية، يسأل حاجبه:

مَن في الباب من الحكماء؟

في تلك الليلة لم يكن بحاجة للشعراء، أو المغنين، أو المهرجين، كان في حاجة إلى الحكماء!

أدخل الحاجب عدداً من مختلف أشكال الرثاثة اللغوية، والفلسفات الدنيوية…جلسوا في مهابة الصمت الثقيل لخليفة مهموم، ينكش بصولجانه أنف النسيج الفارسي تحت كرسيه الذهبي.

قال ” لدي مشكلة، وعليكم أن تفسروها، أو تحلّوها. صرت أعمل الخير فلا أسَرّ به، وأرتكب الشرّ فلا أُساءُ به. لا أطرب، ولا أعجب، ولا أغضب.”

قال حكيم أول : “عليك بالصيد يا مولاي”. لكن الخليفة كان عائداً ذلك اليوم من رحلة صيد.

قال حكيم ثانٍ: “عليك بالنساء يا مولاي” لكن الخليفة عنده ثلاثة آلاف جارية من مختلف الأجناس والممالك.

قال حكيم ثالث: “الملوك، يامولاي، يضجرون . إنه امتحان سماوي للمقدرة على الصبر. والممالك المستقرة تسبب الكسل”.

كان في آخر القاعة حكيم رثٌّ كثيراً، أفاق من غفوة اليأس، وقال للخليفة : “مولاي…والله لقد تكاملَ فيك موت القلب” !

…………………….

أحياناً يحدّق أحدنا في وجوه الناس، يتأمل الانحسار الرمادي لابتساماتهم، يلاحظ عقدة الحاجبين، ضمور الشفتين، تثاقل الخطوات، ويرى ازدحاماً في الأسواق، تناثراً في المقاهي، سيراً على غير هدى، توقفاً حائراً، تأرجحاً في النظرات. ونرى اليوم الليل خال منهم. لا ليل في عيون الناس، لا ضوء في الشوارع. لا كأس عصير في الخيال… كلهم ناموا !

أحياناً نشاهد العرس بعيون الطلاق، ونسمع الموسيقى بأقدام الدببة. و المواكب لا تتغير، تظن المواكب أنها تطلق زمامير السعادة من أرتال نزقة في الطرقات …ثم تطلق، عندما لا تنحني الأشجار، رشقات رصاصها على السماء.
الأغنيات بذاءة التضخم في أثداء النعمة المشبوهة. لم يعد من يشتم فالشتيمة صارت مسلحة ويدها على الزناد. والضحك في غير مكانه بذاءة لا تحترم المصيبة. والعبوس نقص في فرح المواطن الميت أخوه.

أحياناً… ينجح علم الاقتصاد في اكتشاف التوزع الجغرافي على خرائط النقود ! من هم السارقون ومن هم المغلوبون إلى الأبد.

أحياناً… ينجح علم الاجتماع في اكتشاف أمراض وحدة الإنسان مع المحيط أو عزلته عن الفاعلية. ويبشر بازدهار الشعوب أو انقراض التكيف. البقاء على قيد الحروب. وعلى ضفاف المجاعات. وفي التناسل الشريف في غير أوانه.
أحياناً… علم النفس يدرك سرّ العافية أو لغز الأمراض…فتكثر أو تقلّ المهدئات أو المخدرات…وفي النهاية يكثر المجانين الصامتين… فالهذيان جنون ممنوع !

ولكن أحياناً...نحتاج إلى ” ابن زيدون” الشاعر، و” ابن خلدون العالم… نحتاج إلى كل علوم الأرض لكي نفسّر الغمّ الذي جعل الخليفة، في تلك الليلة، يتكامل فيه موت القلب، ونعرف إن كان الجميع ذاهبين في نفس الطريق !

24.07.2014

بوابة الشرق الأوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى