موسكو وطهران بعد «اتفاق فيينا»

لا شك أن موسكو ساهمت بقسط غير قليل في إنجاز الاتفاق حول النووي الإيراني بين طهران والسداسية الدولية، التي كانت روسيا أحد مكوناتها. ويُذكِّر بعض المراقبين الروس بأن بلادهم كانت من أوائل الداعين لإجراء مفاوضات دولية حول الملف الإيراني، بينما يرى البعض الآخر من هؤلاء المراقبين أن مشاركة موسكو في تلك المفاوضات كانت بمثابة مشاركة «المضطر» قبل أن تقفز إيران إلى القطار الأميركي تاركة وراءها الروس، وذلك تحت وطأة العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني.

وبما أن الاتفاق حول النووي الإيراني بات واقعاً ملموساً عبر اتفاق فيينا، بدأ البعض في روسيا يُحصي الخسائر الروسية المحتملة من جراء هذا الاتفاق. وتعود هذه الخسائر، على وجه الخصوص، إلى تأثير رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ومن ثم عودتها الكاملة إلى سوق النفط العالمي وما يعنيه ذلك في ظل الظروف الحالية من تراجع جديد في أسعار النفط مقارنة بما هو عليه الآن. ويخشى الروس أن تؤدي عودة طهران إلى سوق النفط العالمي إلى انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الخمسين دولاراً للبرميل، بينما ميزانية الدولة الروسية مصممة حالياً على أساس 60 دولاراً للبرميل الواحد. ومن المعروف أن التراجع الكبير للأسعار العالمية للنفط خلال الفترة الأخيرة سبَّب لروسيا متاعب كثيرة. ولكن المسؤولين الرسميين الروس يُهونون من هذا الأمر بالقول إنهم أعدّوا العُدة لهذا التأثير السلبي المحتمل، ويعتقدون أن عودة إيران إلى السوق النفطية العالمية تحتاج إلى استثمارات كبيرة صعبة المنال نسبياً في ظل السعر الحالي لبرميل النفط. ويأمل الروس، في الوقت ذاته، أن ينجزوا مشاريع مشتركة مع الإيرانيين تُعوضهم عن أي خسائر محتملة.

ومن الخسائر المحتملة الأخرى التي يمكن أن تتكبدها موسكو جراء اتفاق فيينا، تحول إيران إلى منافس كبير لروسيا في تصدير الغاز الطبيعي، خاصة إلى أوروبا. ومن المعروف أن طهران تُفكر في مشروع لنقل غازها إلى أوروبا عبر تركيا. بيد أن الرسميين الروس يعتقدون أن هذا الأمر سيحتاج إلى وقت وضخ استثمارات ضخمة لبناء أنابيب النفط، أو لاستخدام تكنولوجيا الغاز المسال. ونلاحظ بعض الإجماع بين المراقبين الروس على أن طهران تحتاج إلى خمس سنوات على الأقل حتى تعود بقوة إلى سوق النفط والغاز، ومن ثم تظهر التداعيات السلبية على روسيا واقتصادها. كما أن روسيا لديها قناعة بأنه من الصعب بمكان «إزاحة» غازها الطبيعي من السوق الأوروبية. غير أن إيران قد تحقق هذه القفزة قبل مدة السنوات الخمس التي يفترضها بعض الخبراء الروس. وهنا يصمت الرسميون الروس عن التكهن بما يمكن أن تقوم به بلادهم لتخفيف مثل هذه الأثار السلبية.

ولعل السيناريو الأسوأ للخسائر الروسية المحتملة جراء اتفاق فيينا، بحسب مراقبين روس أيضاً، هو ما يُطلق عليه سيناريو ارتماء إيران في «أحضان» الغرب والولايات المتحدة مستقبلاً، خاصة في ظل التغيرات المحتملة داخل المجتمع الإيراني نتيجة لرفع العقوبات والانفتاح المحتمل لهذا المجتمع على الغرب مجدداً. فبجانب التغيرات السلبية الجيو ـ اقتصادية المتعلقة بتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا، سيمثل سيناريو الارتماء في «أحضان» واشنطن ضربة غير قليلة للجيوسياسة الروسية. ولكن الرسميين الروس يبدون وكأنهم يستبعدون حدوث مثل هذا السيناريو المتشائم بالنسبة لبلادهم، انطلاقاً من أن طهران لن تنسى المساندة الروسية لها خلال السنوات الماضية. بالطبع، الاعتماد على مثل هذه «المساندة» غير كاف لاستشراف المستقبل.

في ظل تعداد الخسائر الروسية المحتملة بعد الاتفاق حول النووي الإيراني، يهتم الرسميون الروس، بدرجة كبيرة، بالاستفادة من الاتفاق في حل إحدى معضلات علاقتهم مع الولايات المتحدة. ونقصد هنا موضوع الدرع الصاروخية الأميركية الأطلسية المزمع نشرها في أوروبا. ولذلك، نلاحظ أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول مباشرة بعد توقيع اتفاق فيينا «إن بلاده تأمل بتنفيذ الولايات المتحدة وعدها بعدم تطوير القسم الأوروبي في دفاعاتها الصاروخية بعد تسوية المشكلة الإيرانية»، مُوضحاً أنه لفت نظر الأميركيين إلى هذا الأمر وينتظر ردهم. لكن واشنطن سارعت بالرد على الوزير الروسي الأربعاء بالقول «إن الاتفاق بشأن برنامج إيران النووي لا يلغي الحاجة إلى نشر منظومة دفاع صاروخي في شرق أوروبا لمواجهة خطر الصواريخ الإيرانية». وأدى هذا التصريح الأميركي بعضو لجنة المجلس الأعلى للبرلمان الروسي للشؤون الدولية، إيغور ماروزوف، للمطالبة بتعديل العقيدة العسكرية الروسية وإستراتيجية الأمن القومي في روسيا لتوجيه الصواريخ الروسية نحو الغرب.

ومن المعروف أن روسيا تعارض بشدة نشر الدرع الصاروخية الأميركية في شرق أوروبا، لأنها تعتبر هذه الصواريخ موجهة ضدها وتهدد أمنها القومي. وتتبنى موسكو موقفاً رافضاً إزاء رغبة عدد من الدول الأوروبية في نشر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيها، انطلاقاً من أن هذا التطور يعمل على تقويض قوة الردع النووية الروسية. وتنديد موسكو بخطط الولايات المتحدة و «حلف شمال الأطلسي» بنشر قوات عسكرية وعناصر الدرع الصاروخية في بعض الدول الأوروبية ليس جديداً تماماً. ففي العام 2010، لم تخف روسيا قلقها إزاء خطط نشر صواريخ اعتراضية أميركية في رومانيا وبلغاريا، بعدما كانت قد رحبت بقرار أوباما في العام 2009 بإجراء تعديلات على خطة إنشاء منظومة الدرع الصاروخية ووقف نشر عناصر منها في بولندا وجمهورية التشيك. ولكن أتضح في ما بعد أن واشنطن لم تتخل نهائياً عن نشر درعها الصاروخية في أوروبا، وإنما أجلت نشرها فقط.

في غالب الظن، ستعمل روسيا في المرحلة القادمة على تقليل خسائرها المحتملة جراء اتفاق فيينا، وستعمل أيضاً على الاستفادة من هذا الاتفاق اقتصادياً وسياسياً وفي قضايا مثل الدرع الصاروخية. ولذلك، سنشهد اشتعال المنافسة، وأحياناً الصراع، على السوق الإيرانية بمختلف تنوعاتها من نفط وغاز وبنية أساسية ومفاعلات نووية لتوليد الكهرباء وغيرها. وسيتوقف الأمر، بدرجة كبيرة، على إيران وتوجهاتها المستقبلية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى