أحوال الدنيا

نتعلق بالقصص ونتعامى عن تحذيراتها!!

د. فؤاد شربجي

العرب مغرمون بالقصة، ويتعلقون بالحكاية، وجعلها الله في القرآن الكريم (أحسن القصص) لتنبيه الناس لمعانيها وتحذيرهم من أخطار تعبر عنها، وتهديهم للطريق السليم والمنقذ. لكن العرب أدمنوا التعلق بالقصة وتسلسلها. واغوتهم الحكاية بأحداثها ووقائعها. وبدل أن يدركوا معناها فيخرجوا من غفلتهم كما أراد الله لهم، اخذتهم الغواية بالقصة الى ترددها والتسليم لمتعة القص فيها غافلين عما بها من تحذير وتنبيه. متجاهلين ما بها من هدي لاتقاء المخاطر المعبر عنها، ‏وبعض هذا التجاهل والكثير من هذه الغفلة لما في القصص من مخاطر مهلكة ومدمرة، نقع بها مقابل الإغواء الذي يعمينا عن معانيها، ويعجزنا عن مواجهة مخاطرها.

‏ ‏منذ عشرين سنة تقريبا يردد العرب أن إسرائيل لا تريد غزة “أهل غزة” ومنذ أكثر من 15 سنة روى أستاذ محمد حسنين هيكل ما قاله رابين للرئيس الفرنسي ميتران حول ما يعانيه من “كابوس غزة” متمنيا أن يصحو في أحد الأيام من النوم فيجد قطاع غزة “أهل غزة” وقد غرق في البحر. ومنذ ذاك الوقت شرح هيكل أن المخططات الإسرائيلية تعمل على دفع أهل غزة نحو سيناء. ومنذ ذاك الوقت والعرب يرددون هذه الحكاية ويكررونها مكتفين بالرواية والقصة وساكنين في القصة. لم يغادرونها إلى أي فعل يحفظ أهل غزة في بلادهم ويعطل السياسات الإسرائيلية. حتى وصلنا هذه الأيام إلى قيام إسرائيل بتحقيق مضمون قصة غزة بتدميرها، وقتل شعبها ودفعه للرحيل. عشنا في القصة، وغرقنا في إغوائها، ونسينا أن نفعل ما يحمي غزة وأهلها من التهجير والترحيل، بعد جعل حياتهم كابوسا لهم وليس لإسرائيل.

‏وابتداء من أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن العشرين يردد العرب أن بن غوريون مؤسس ورئيس حكومة إسرائيل قال في جلسة حكومته (لن تأمن إسرائيل على نفسها حتى تدمر ثلاثة بلدان عربية. مصر سوريا والعراق). وجعل العرب هذا التوجه الإسرائيلي حكاية يستعملونها في أحاديثهم السياسية، وخطاباتهم الجماهيرية. لكنهم لم يفعلوا شيئا يحمي هذه البلدان “الدول” ويصونها تجاه المخططات الإسرائيلية حتى تحقق هدف بن غوريون ودمرت سوريا ودمر العراق قبلها بالفعل وأضعفت مصر إلى حد كبير.

‏نفس الأمر حدث مع تصريح رئيس الاستخبارات العسكرية الأمريكية في العام 2003 من أن (قرارا اتخذ في البنتاغون لإسقاط سبع دول عربية) وحول العرب هذا الإعلان والكشف إلى قصة يرددونها دون أن يتعظوا بما تضمنته من مخاطر. حتى جاء الربيع العربي ودمر المنطقة العربية. وما زلنا نستعمل هذه القصة لتبرئة النفس واتهام أمريكا، غافلين عن تقصيرنا بالفهم والانتباه. هاربين من حقيقة عجزنا عن تدبر ما يحمينا.

‏والآن الكل مقتنع بالرواية التي تقول أن التدخل الإسرائيلي في سوريا بحجة حماية الأقليات هدفه تقسيم سوريا وابقاءها ضعيفة، مبعثره القوة والسيادة والأرض والشعب. ونحن مازلنا نردد هذه القصة دون ان ننخرط بما يحمينا من مخاطرها. مع أن الأمر لا يحتاج إلا إلى (تفعيل العوامل الجامعة لجميع مكونات وعناصر الشعب السوري عبر طمأنة الجميع إلى أن الدولة القائمة هي من يحميهم ويحترم خصوصياتهم ويقدر إسهاماتهم) وأن بقينا نعيش في ترداد القصة، غافلين عن معانيها، ومقصرين في القيام بما ينسف أهدافها سنجد أنفسنا نحقق ما ترسمه إسرائيل وتهدف إلى تحقيقه.

‏وقصة هذه القصص تكمن في أنه ومنذ 100 عام، أي منذ نشوء الدول العربية بعد الاستعمار، كان الحكام العرب وسلاطينهم من العسكريين المستبدين أو من قياداتهم المتحكمين، قاموا بتسخيف النخب. أحلوا السفيه في محل المفكر. واستبدلوا المادحين مكان المفسرين والباحثين. فحرموا مجتمعاتهم دماغها المتمثلة بالنخب. ودفعوا شعوبهم ليسيروا وراء مشعوذي السياسة، بدل أن يهتدوا بالمشاريع والأفكار الوطنية الحضارية التي تبدعها النخب المبعدة. وهكذا ضلت الناس الطريق بسبب استبعاد أنوار النخب. وبذلك غفلت الشعوب عن معنى القصص، وعن ما فيها من تحذير من المخاطر. أكمل عجز مجتمعاتنا الغفلة التي اعمتها ومنعتها من الإعداد والتهيئة واكتساب القوة بمعناها الشامل لمواجهة الخطر. ضاع المعنى. وحلت الغفلة. واتسع العجز. وساد الحكام والسلاطين باستبدادهم. ويستمر الحال: غفلة عن الخطر تجعلنا نمشي إليه متلهين بقصصه، ومنع للنخب من التفكير والنظر، فتزداد العتمة ويتعمق العمي ويتفاقم ادماننا لا للقصص بل لتضيع معناها وعدم الاستفادة من تحذيراتها.

بالفعل “إنا نضيع أخطر القصص” بالغفلة والعمى وبفقدان النخب. ونضيع معها مستقبلنا!!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى