نجيب محفوظ: إهمال شديد ثم اهتمام كبير
في بعض حواراته الأخيرة ذكر الكاتب الكبير نجيب محفوظ أن حياته بدأتْ بإهمال طويل، وتنتهي باهتمام كبير. فقد كتب صاحب “الثلاثية” ثلاث روايات في فجر شبابه، ورفضها الناشرون، فلم ييأس وكتب الرواية الرابعة التي نشرها سلامة موسى تحت عنوان “عبث الأقدار” عام 1939. ولم أجد من كتابنا المعاصرين من ينطبق عليه بيت المتنبي الخالد (أنام ملء جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ) سوى صاحب “أولاد حارتنا”.
ويحدثنا نجيب محفوظ أنه كانت من أمنيات الموسيقار عبدالحليم نويرة تحويل رواية “رادوبيس” إلى أوبريت موسيقي، وعرض الرواية بالفعل على عدد من الشعراء الكبار مثل أحمد رامي لتحويلها إلى أشعار يسهل تلحينها، ولكنهم رفضوا لأن اسمه لم يكن معروفا لديهم في ذلك الوقت، وكان ذلك عام 1943.
الآن يتسابق الناشرون على نشر، وإعادة نشر، أعمال نجيب محفوظ بعد المجد الأدبي الذي حققه خلال عمره الطويل الذي امتد إلى خمسة وتسعين عاما (1911 – 2006). وكان محفوظ يرى خلالها أن النشر هو المجد الأعظم والمتعة التي لا تعلوها متعة بالنسبة للكاتب، ولم ينظر إليه على أنه مصدر رزق أبدا. لكنه أضحى الآن – بعد وفاته بخمسة عشر عاما – مصدر رزق لناشري أعماله.
وقد قرأت مؤخرا خبر حصول إحدى دور النشر المصرية على الحقوق الحصرية لنشر الأعمال الكاملة لصاحب نوبل، لمدة 15 عاما تبدأ من مايو القادم، وأعلنت تلك الدار بأنها تعتزم إعادة إحياء تراث نجيب محفوظ وتقديم أعماله المنقحة والمراجعة بأحدث تقنيات النشر الورقي والرقمي والصوتي، والعمل على تمديد أثره الفكري وحفظ إرثه الأدبي الفريد.
كما شاهدت مداخلة تلفزيونية في برنامج الإعلامي والروائي إبراهيم عيسى “حديث القاهرة” مع ناشر آخر هو مؤسسة هنداوي، تتحدث عن الموضوع نفسه.
وكأن هناك شيئا ما، أو صراعا ما، بين مكتبة ديوان، ومؤسسة هنداوي حول من يفوز بتراث نجيب محفوظ. وكأن هذه الأعمال الكاملة غير منشورة من قبل، وكأنها غير متاحة بالمجان على بعض المواقع الإلكترونية، وكأن تراث نجيب محفوظ غير محفوظ في متحفه بشارع التبليطة بمنطقة الأزهر في القاهرة الفاطمية.
وكأننا لم نقرأ تراثه وأعماله من قبل، وكأن رواياته وقصصه ومسرحياته ومقالاته غير منشورة نشر ورقيا من قبل، وكأن تلك الأعمال غير موجودة في المكتبات ولدى بائعي الكتب والمجلات في الطرقات العامة، أو أنها نفدت لدى تلك المكتبات والباعة. .. وكأن .. وكأن .. وكأن.
أنا شخصيا أنزلتُ أغلب أعمال محفوظ – بالمجان – من موقع يحمل اسم “مكتبة نور” مع أن أغلب الطبعات الورقية في مكتبتي من عشرات السنين. وقد عدت إلى هذه الأعمال مرارا وتكرارا أثناء كتابتي لرواية “الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ”.
طبعا أمر إعادة نشر تلك الأعمال التي نشرتها من قبل جهات أخرى مثل مكتبة مصر، ومكتبة الشروق وغيرهما، تعود إلى صاحبة الحق الأصيل في هذا الأمر، وهي ابنته أم كلثوم (هدى).
والأولى أن نفكر في طريقة جديدة ومبتكرة لإيصال فكر نجيب محفوظ وإبداعه للناس وللشباب – على وجه التحديد – الذي لم تصبح القراءة في مجال أولوياته، فنبحث مثلا عن الفكرة التي أراد الموسيقار الراحل عبدالحليم نويرة تنفيذها في يوم من الأيام، ولم يستطع بسبب أن اسم محفوظ وقتها غير معروف، أي تحويل رواية “رادوبيس” إلى أوبريت موسيقي، أو غيرها من الأعمال القابلة لهذا الأمر.
وعلينا أن نتأمل تلك العبارة التي ذكرها نجيب محفوظ في أحد حواراته لنطور من نشر أعماله وإبداعاته، حيث قال: “حدث بعد أن فزت بنوبل 1988 أن جاءني موسيقار شاب من كندا، وطلب موافقتي على تحويل رواية “اللص والكلاب” التي قرأها مترجمة في الإنكليزية، إلى عمل أوبرالي شبيه بأوبرا “عايدة”، فتعجبت من ذلك، وتذكرت نويرة، وقلت للشاب الكندي إن “رادوبيس” تصلح لهذا الغرض، وربما تجد فيها أجواء موسيقية أكثر من “اللص والكلاب” لأن “رادوبيس” تتصل بتاريخ الفراعنة المعروف والمحبوب في العالم كله، ولكنه صمَّم على موقفه، مؤكدا أنه وجد في “اللص والكلاب” جوا موسيقيا دراميا يبحث عنه، وقال لي إنه استمع إلى كثير من الأغاني الدينية التي تناسب شخصية “علي الجنيدي”، وهي شخصية الشيخ المتصوف الموجودة في “اللص والكلاب”. ولما رأيت تصميمه أعطيته توقيعي بالتنازل عن الرواية ليقوم بهذه التجربة الغريبة، فكانت فرحته لا توصف”.
أليست هذه الأفكار تعمل على تخليد اسم نجيب محفوظ، وإحياء أعماله، فتصل إلى عدد أكبر من الجمهور، الذي بالتأكيد سيبحث بعضه عن الكتاب ويقرأه، فنكون بذلك قد كسبنا جمهورا متفرجا وجمهورا قارئا؟
أليس إنتاج فيلم سينمائي درامي عن محفوظ وكفاحه وعرض الجوانب الدرامية في حياته هو الأولى بالرعاية الآن، ولقد سمعت أن هناك مسلسلا تلفزيونيا بطولة الفنان أحمد حلمي، يجرى إعداده الآن للعرض في رمضان القادم، ونحن في شوق إليه.
فعلا بدأتْ حياة نجيب محفوظ بإهمال طويل، وانتهت باهتمام كبير، ولم يزل هذا الاهتمام موجودا بل يتزايد يوما بعد يوم، ففي كل يوم نكتشف الجديد من الرؤى والأفكار حول شخصية نجيب محفوظ وإبداعاته وأفكاره المختلفة.