نهاية وهم الاستقرار العالمي : تحولات كبرى وموقع تركيا في النظام الجديد
ماهر عصام المملوك

ماذا يعني الان ان العالم هو بين أفول النيوليبرالية وصعود الجيوبوليتيكي في النظام الدولي الجديد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية مستقراً كما بدا لعقود.
لنرجع ونذكر بما ارتكزت عليه مرحلة ما بعد 1945 على توازنات فرضها التفوق الأمريكي والقطبية الثنائية خلال الحرب الباردة، ثم القطبية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. فمنذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تسارعت مظاهر انهيار هذا النظام، مما أعاد إلى الواجهة منطق القوة كأداة رئيسية في العلاقات الدولية، متجاوزاً فكرة القانون الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف.
اليوم، نشهد إعادة تشكل المشهد العالمي وفق توازنات جديدة، حيث تلعب القوى الصاعدة، مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران والهند، أدواراً متزايدة الأهمية في إعادة صياغة خريطة النفوذ العالمي. في هذا السياق، تبدو تركيا واحدة من أكثر القوى قدرة على المناورة، بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي الفريد، وطموحاتها المتزايدة في أن تكون فاعلاً رئيسياً على المستويين الإقليمي والدولي.
لكن مع تصاعد التوترات العالمية، يظل السؤال: كيف ستدير أنقرة تفاعلاتها مع القوى الكبرى في ظل انهيار النظام القديم وصعود سياسات الهيمنة الإقليمية؟ وما هي خياراتها في التعامل مع جوارها العربي، خاصة مع إسرائيل وإيران وسوريا؟
1. نهاية النظام النيوليبرالي وبروز الجيوبوليتيك
أ. سقوط فكرة “السلام النيوليبرالي”
خلال العقود التي تلت الحرب الباردة، بدت العولمة وكأنها تمثل وعداً بتحقيق عالم أقل صراعاً وأكثر اندماجاً اقتصادياً. لكن هذا الوهم سرعان ما تلاشى مع تصاعد الحروب التجارية، وعودة الصراعات الجيوسياسية، وانهيار الثقة بالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي.
لقد كشف العقد الأخير أن “السلام النسبي” الذي ساد بين 1945 و2014 لم يكن سوى استثناء تاريخي، فرضته الهيمنة الأمريكية والتوازن النووي بين القوى الكبرى، وليس تحولاً حقيقياً في طبيعة العلاقات الدولية. اليوم، ومع ضعف واشنطن داخلياً وصعود قوى جديدة، يتجه العالم نحو مرحلة أكثر اضطراباً، حيث تتراجع القوانين لصالح المصالح القومية والسياسات الواقعية.
ب. عودة منطق القوة والصراعات الإقليمية
تتجلى هذه العودة لمنطق القوة في عدة ساحات صراع رئيسية:
- غزة: حيث تتجاوز الحرب مجرد مواجهة فلسطينية-إسرائيلية لتصبح ساحة اختبار للتوازنات الإقليمية، في ظل تورط إيران وحلفائها وامتداد الصراع إلى البحر الأحمر.
- أوكرانيا: التي تمثل مثالاً صارخاً على انهيار القانون الدولي، مع استخدام روسيا للقوة العسكرية لاستعادة مناطق نفوذها، وسط دعم غربي غير كافٍ لوقف التوسع الروسي.
- تايوان: حيث تتزايد المخاوف من أن الصين قد تستخدم القوة العسكرية لحسم ملف الجزيرة، في تحدٍّ مباشر للولايات المتحدة وحلفائها في المحيط الهادئ.
- بنما وغرينلاند: حيث تصاعد التنافس الأمريكي-الصيني على الممرات التجارية والموارد الطبيعية في القطب الشمالي وأمريكا اللاتينية.
2. تركيا في قلب التحولات الدولية
أ. بين الجغرافيا والتاريخ: لماذا تركيا قوة حاسمة؟
لطالما كانت تركيا في موقع استراتيجي محوري، يربط أوروبا بالشرق الأوسط وآسيا، ويجعلها لاعباً حاسماً في أي تحول جيوسياسي عالمي. لكن أهمية تركيا لا تقتصر على موقعها فقط، بل على قدرتها على التكيف السريع مع التحولات الدولية، مستفيدة من قوتها الاقتصادية والعسكرية، ومن سياسة خارجية براغماتية تجمع بين الدبلوماسية واستخدام القوة.
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، سعت أنقرة إلى إعادة تعريف دورها في النظام العالمي، متجاوزة حدودها التقليدية كلاعب تابع للغرب في إطار الناتو، لتصبح قوة مستقلة تمتلك استراتيجياتها الخاصة. من المشاركة العسكرية في سوريا وليبيا وأذربيجان، إلى التوسع الاقتصادي في أفريقيا وآسيا الوسطى، أثبتت تركيا أنها قادرة على توسيع نفوذها بما يتجاوز دورها السابق كجسر بين الشرق والغرب.
ب. تركيا وإسرائيل: تحالف الضرورة أم تنافس استراتيجي؟
تمثل العلاقة بين تركيا وإسرائيل أحد أكثر الملفات تعقيداً في السياسة الإقليمية. فمنذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية، شهدت العلاقات بين البلدين توترات متكررة، خاصة في ظل سياسات الاستيطان والاعتداءات الإسرائيلية على غزة.
لكن رغم ذلك، لا تزال هناك مصالح مشتركة تدفع الطرفين إلى الحفاظ على قنوات التواصل، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة. إذ تعتبر إسرائيل تركيا ممراً استراتيجياً لنقل الغاز إلى أوروبا، في حين ترى أنقرة أن التعاون الاقتصادي مع تل أبيب يخدم بعض مصالحها الإقليمية، حتى لو كان ذلك في إطار براغماتي بحت.
المتغير الرئيسي هنا هو موقف تركيا من الحرب في غزة، إذ إن التصعيد المستمر قد يدفع أنقرة إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة ضد إسرائيل، مما قد يؤدي إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة، خاصة في ظل تقاربها المتزايد مع الدول العربية.
ج. تركيا وإيران: التنافس تحت مظلة البراغماتية
لطالما جمعت تركيا وإيران علاقة معقدة تتراوح بين التعاون والتنافس. فمن ناحية، تتشارك الدولتان في رفض الهيمنة الغربية، وتسعيان إلى توسيع نفوذهما في المنطقة. لكن من ناحية أخرى، يتنافسان بشدة على النفوذ في العراق وسوريا والقوقاز، حيث تسعى كل منهما إلى ترسيخ موقعها كقوة إقليمية مهيمنة.
في السنوات الأخيرة، ومع تراجع النفوذ الإيراني في بعض الساحات بسبب الضغوط الاقتصادية والعسكرية، سعت تركيا إلى ملء الفراغ، خاصة في العراق وسوريا، حيث تعمل على توسيع وجودها العسكري وتعزيز تحالفاتها مع الفصائل المحلية.
لكن السؤال المطروح هنا هو: إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التنافس دون أن يتحول إلى صراع مباشر؟ هل يمكن أن تشهد المرحلة المقبلة تصعيداً بين أنقرة وطهران في سوريا أو العراق؟ أم أن المصالح المشتركة ستدفعهما إلى الحفاظ على نوع من التفاهم التكتيكي؟
د. تركيا وسوريا: نحو أي مستقبل؟
تبقى سوريا إحدى أهم القضايا في السياسة الخارجية التركية. فمنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، لعبت أنقرة دوراً رئيسياً في دعم المعارضة، قبل أن تتحول إلى لاعب عسكري مباشر على الأرض عبر عملياتها في الشمال السوري.
لكن مع تعقيد المشهد السوري، وعودة بعض الدول العربية إلى التعامل مع نظام الأسد، وجدت تركيا نفسها أمام معضلة استراتيجية:
- هل تستمر في دعم الفصائل المسلحة في الشمال السوري، أم تبحث عن تسوية سياسية تحافظ على نفوذها دون صدام مباشر مع روسيا وإيران؟
- كيف ستتعامل مع ملف اللاجئين السوريين، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الداخلية لإعادتهم إلى بلادهم؟
- ما هو الدور التركي في إعادة إعمار سوريا، ومن هي الأطراف التي ستشارك في هذه العملية؟
3. سيناريوهات المستقبل: ما هو شكل النظام العالمي القادم؟
في ظل هذه التحولات الكبرى، هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل النظام العالمي، وتأثيرها على تركيا وجوارها:
- تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب: حيث تتراجع الهيمنة الأمريكية لصالح صعود قوى إقليمية مثل الصين وروسيا وتركيا، مما يسمح بإعادة توزيع النفوذ الدولي وفق توازنات جديدة.
- تصاعد الصراعات الإقليمية: مع استمرار التوترات في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، قد نشهد حروباً إقليمية واسعة تعيد تشكيل الخارطة السياسية للدول.
- إعادة ترتيب التحالفات: من المحتمل أن تشهد تركيا تحولات في علاقاتها مع الغرب والعالم العربي وإيران وإسرائيل، وفقاً لتطورات الأحداث في غزة وسوريا وأوكرانيا.
والسؤال الذي يبقى يطرح نفسه عن تركيا الحاضر والتي هي الان بين الفرص والتحديات. مما لا شك به بأن تركيا تقف اليوم عند مفترق طرق استراتيجي، حيث تمتلك فرصاً غير مسبوقة لتوسيع نفوذها، لكنها تواجه في الوقت ذاته تحديات معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين القوة والدبلوماسية.
وفي عالم يعود إلى قوانين ما قبل 1938، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف ستعيد أنقرة تشكيل دورها في النظام الدولي الجديد؟
بوابة الشرق الأوسط الجديدة