نوافذ للحوار| حمّور زيادة: أنا ابن حكايات الجَدّة
ظل الكاتب السوداني حمّور زيادة يراكم كتاباته، مجموعة قصصية ثم رواية ثم مجموعة أخرى، إلى أن جاءت روايته الأحدث «شوق الدرويش» (العين للنشر ـ 2014) لتكتسح المشهد الروائي مصرياً وعربياً، بل وربما لتجبّ إصدارات زيادة السابقة. بعد أن حازت جائزة «نجيب محفوظ» التي تقدمها «الجامعة الأميركية في القاهرة»، استطاعت الرواية أن تفرض حضورها أخيراً ضمن القائمة القصيرة في المسابقة العالمية للرواية العربية «البوكر»، علاوة على استقبالها بحفاوة نقدية بالغة.
وقد ورد في حيثيات لجنة تحكيم جائزة نجيب: «أهم ما يميز «شوق الدرويش» هو هذا الثراء الملحمي الذي يسري بطول السرد، لا على مستوى تعقيد شخصية البطل المأساوي فحسب، بل أيضاً على مستوى تعدد مناحي الخطاب اللغوي، إذ تتراوح على نحو مبهر وغني ما بين: السرد والشعر والحوار والمونولوج والرسائل والمذكرات والأغاني والحكايات الشعبية والوثائق التاريخية والترانيم الصوفية والابتهالات الكنسية وآيات القرآن والتوراة والإنجيل وحتى الكتابة عن الكتابة. ففي تصويرها للدمار الذي سببته الانتفاضة المهدية، وهي حركة دينية متطرفة عنيفة، تأتي «شوق الدرويش» كتجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة حيث تعم الفوضى نتيجة للتطرف الديني». بينما وصف الناقد صلاح فضل الرواية بأن «هذا النوع من روايات الجذور هو القادر على توثيق التاريخ العاطفي للشعوب وإعلان مولدها الأدبي. وقد كنا نعد رواية طيب الذكر الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» الركيزة الأولى للأدب السردي في السودان حتى الآن، لكن هذه الرواية تأتي لتعيد ترسيم الحدود وتقدم نماذجها الأصيلة العارمة المكتوبة في وهج التاريخ وقلب المدن وأحشاء المجتمع».
انتقل زيادة للإقامة في القاهرة منذ عام 2009، مدفوعاً بطموحات كبرى، وكذلك بأمل في إنهاء حالة العداء التي تكنها له السلطات السودانية نصف الإخوانية نصف العسكرية. ومنذ ذلك الحين صار الروائي السوداني، بملامحه الجنوبية المحببة، وبقامته الفارعة وجهاً مألوفاً في كل محافل الكتاب بالقاهرة، ومركز ثقلها الثقافي المعروف باسم «وسط البلد».
إضافة لـ «شوق الدرويش»، صدرت لحمّور مجموعتان قصصيتان: «حكايات أم درمانية»، و«النوم عند قدمي الجبل»، ورواية «الكونج».
«كلمات» التقى الروائي السوداني في القاهرة، وكان معه هذا الحوار:
■ لنبدأ من الآخر. بعد جائزة «نجيب محفوظ»، وصلت روايتك إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية؟ ماذا يعني لك هذا؟ وماذا لو فزت بالجائزة؟
أنا راضٍ جداً بوصول «شوق الدرويش» إلى القائمة القصيرة، وهي ثاني رواية سودانية بعد رواية «صائد اليرقات» لأمير تاج السر في دورة 2011.
كما أنني راضٍ لأن الرواية هي الثانية في رصيدي، وإصداري الأدبي الرابع، فأنا أعتبر أنني مازلت في بدايات مشروعي الروائي، والوصول للقائمة القصيرة تقدير عالٍ جداً، ودفعة رائعة للأمام. أما إذا حصلت على الجائزة، فستكون سعادتي مضاعفة، كأول سوداني يحصد «البوكر»، خصوصاً أن الفائز يحظى بنصيب مضاعف من الاهتمام النقدي وتسليط الأضواء مقارنة حتى بالواصلين للقائمة القصيرة.
■ وماذا عن العائد المادي؟
لا أنكر أن العائد المادي محفّز ومهم. نحن جيل محظوظ، فقد عشنا لنرى الكتابة وقد صارت قادرة على أن تدرّ دخلاً على الكتّاب من خلال الجوائز. الراحل الطيب صالح لم يتقاضَ مليماً واحداً من عائدات بيع رواياته التي ترجمت للعديد من اللغات، ونجيب محفوظ من دون أموال «جائزة نوبل» لم يكن سيحظى إلا بحياة موظف من الطبقة الوسطى.
■ في دورات سابقة طاولت الجائزة انتقادات عديدة، خصوصاً في ما يتعلق بلجان التحكيم؟
لم أتابع خلال السنوات الماضية هويات أعضاء لجان التحكيم. أتابع فقط تلك الحالات الصاخبة والزاعقة في لجان التحكيم مثلاً مثل اختيار جلال أمين رئيساً لإحدى تلك اللجان، أو انسحاب الناقدة شيرين أبو النجا من لجنة أخرى، لكن في المجمل لا أتابع أخبار تلك الانتقادات الموجهة للجائزة ولجان التحكيم بالتحديد، لأن اهتمامي ينصب عادة على قراءة الروايات التي وصلت إلى قوائم الجائزة.
■ هل تشكّل روايات القائمتين الطويلة والقصيرة بالنسبة لك مرجعية ما للرواية العربية المعاصرة؟
بالتأكيد، فحتى أشد الناقمين على «البوكر» والغاضبين منها لا يستطيعون أن يشككوا في حقيقة أنها الجائزة العربية الأكبر، فخلال الأيام السابقة مثلاً هاجم مثقفون مصريون الجائزة وانتقدوا غياب الروايات المصرية عن القائمة القصيرة، ومثل هذا النقد والاندهاش مبني على أن «البوكر» هي الجائزة الأكبر عربياً. وبالتالي من دون شك تشكل مرجعيةً ما. ومن جهة أخرى، لا تشكل الجوائز مقياساً، وهي لا تعني بالضرورة أن العمل جيد. ولا تعني أبداً أن العمل الذي لم يحصل على جائزة عمل غير جيد.
■ لنعد إلى تجربتك. تقول إنك ابن حكايات الجدة. كيف ساهمت تلك الحكايات في تكوينك ككاتب؟
– تلك اللبنة الأولى، والتي أزعم أنها صبغتني بصبغتها حتى اليوم. كلما شرعت في كتابة تعاملت معها كحكاية يجب أن تكون ممتعة، وتجذب القارئ. أن يعيش فيها تلك اللذة التي يعيشها الطفل بين يدي جدته وأنفاسه تنقطع مع البطل في رحلته إلى الجميلة. أن يغالب النوم حتى لا ينقطع عليه السرد.
هذا شيء تعلمته من جدتي، وما زلت أحاول أن أتقنه.
■ في كلمتك بعد فوزك بــ «جائزة نجيب محفوظ» تحدثت عن الحكي والسرد كمدخل لـ «الوَنَسْ» في السودان…
– نحن في عالم موحش جداً. والأصل في المجتمعات البشرية هو التواصل الإنساني. الإنسان اخترع اللغة ليتواصل بها مع الآخرين. هناك أشخاص وهبهم الله مقدرات اجتماعية عالية للتواصل. بينما حرم آخرين. السارد غالباً يكون من أولئك المحرومين من مقدرات التواصل، لذلك يلجأ للمؤانسة. الحكي و«الونس» هما الطريق الوحيدة لديك لكسر العزلة والتواصل مع من حولك.
هذا طبعاً قد لا ينطبق على الجميع. هناك من يستخدمون السرد لتقديم أسئلة، وهزّ مسلمات. لكن السارد الذي يحرص على تقديم الونس يمد جسور تواصله مع العالم الذي يعجز عن التعامل معه.
■ تقوم «شوق الدرويش» على دقة بحثية في المراجع والوثائق، كيف تنظر إلى الروائي بوصفه باحثاً ومنقباً في التاريخ والجغرافيا؟
– هذا أمر مهم جداً. ليس فقط في الكتابة عن التاريخ، لكن حتى في الكتابة المعاصرة. من المهم أن تلم بالواقع، بتفاصيله. أن تلم بالمكان وتاريخه وجغرافيته. كل معلومة – حتى لو بدت زائدة عن الحاجة في ذهنك – مهمة في تخيلك لما تكتب عنه.
هذه المعرفة تمكنك من امتلاك أدواتك، وتساعدك في تصديق ما تقول. هذا الإحساس – من دون أن تدري – يصل للقارئ، هو ما يجعله يشعر بحقيقية وحيوية ما تحكيه له.
■ لماذا اخترت حقبة «الثورة المهدية» بالتحديد كخلفية زمانية للرواية التي تسرد علاقة عبد أسود براهبة يونانية اسكندرانية النشأة؟
– لا أظن أن كاتباً سودانياً يمكن أن يقاوم إغواء الكتابة عن تلك الفترة العظيمة. هذه فترة بها كل ما تحلم به لكتابة عمل ملحمي: إيمان مطلق، انتصارات باهرة، تغيرات مجتمعية، دم وقتل، أجانب وثقافات متعددة، مدن عظيمة تسقط وتنهار. ومدن عظمى أخرى تنشأ، ظلم وقمع، هزائم مهولة…
هذا ليس مجرد تاريخ. هذا منجم حكائي لا ينضب.
ناهيك عن أن كل ما تطرحه تلك الفترة من أسئلة مازال مطروحاً لدينا اليوم. فنحن قد سقطنا في فخ التاريخ الذي لم نفارقه إلى اليوم.
■ لو أنك سُئلت عن التقنيات السردية المستخدمة في «شوق الدراويش»، كيف تلخصها في نقاط؟
– هذا أمر أعجز عن شرحه. لقد حكيت شوق الدرويش بشكل دائري متقطع بعد محاولات عدة، حتى توصلت إلى هذا الشكل الذي أحسست أني كنت أبحث عنه منذ البدء. لماذا؟ ما هي ملامحه؟ لا أقدر أن أجيب على ذلك.
■ ربما تكون مفارقة أنك لم توفق في البداية في نشر الرواية لدى دور نشر عدة قبل أن تتفق مع «دار العين». كيف ترى سوق النشر سودانياً ومصرياً وعربياً؟
– هناك فارق كبير بين سوق النشر في السودان ومصر. لا أعرف الكثير عن سوق النشر خارجهما. لكن سوق النشر في السودان محاصرة بأشياء كثيرة. يمكننا أن نقول بثقة: «ليست هناك صناعة نشر في السودان». هناك محاولات، لكن لا توجد صناعة.
في مصر هناك صناعة وسوق للنشر. تعطي المؤلف خيارات عديدة في النشر. هذا أمر جيد. رغم إشكالات سوق النشر المصري الحديثة. وهذا أمر طبيعي: دور النشر الكثيرة التي تنشر لأي شخص، سوق القراء الذي أصبح كله يتطلع ليصبح كتّاباً، ما خلق شلليات قراء، كل مجموعة قراء تقرأ لصديقهم الكاتب، بغض النظر عن مستواه، لكنه كاتبهم المفضل والأوحد. وهم يطمحون أن يصبحوا مثله، هذه من الأعراض الجانبية لاتساع سوق النشر. لكنها أمور مفهومة. وفي النهاية هي أمور تحدث حراكاً.
■ لماذا لم تحقق مجموعتاك القصصيتان نفس الاستقبال الذي حققته روايتاك؟
– المجموعة الأخيرة «النوم عند قدمي الجبل» غالباً طغت عليها روايتي «شوق الدرويش». هكذا أحب أن اطمئن نفسي. بخاصة أن ردود أفعال القلة التي اطلعت عليها إيجابية جداً. حين تؤكد أسماء مثل بلال فضل ومحمود عبد الشكور أنها أجمل مجموعة قصصية في 2014، وحين يقول القاص والكاتب حسام فخر أنه قرأ فيها قصصاً من أجمل ما قرأ، مع تحفظه على قصص فيها، هذا بالتأكيد أمر جيد. لعل المجموعة جيدة كما قالوا لكن حظها عاثر. ولعلها سيئة ولم تعجب الناس. لا أدري بدقة. لكني بالتأكيد أحب أن أطمئن نفسي أنها جيدة لكنه الحظ.
■ أي خصوصية قد تميز الأدب السوداني عن نظيريه العربي والأفريقي؟
– امتزاج الثقافتين العربية والأفريقية. الأدب السوداني ابن ثقافتين، ممتزجتين في بعض الأحيان ومتصارعتين في أحيان أخرى. شكلتا الوجدان السوداني، والثقافة السودانية. من هنا يتحرك الأدب بمحمول لا يتوفر لكل واحدة من الثقافتين على حدة.
■ في هذا السياق، نكاد نجهل الأدب السوداني وخصوصاً الرواية بعد اسم الطيب صالح؟ ما هي صورة هذا الأدب اليوم؟
– هناك حركة أدبية واسعة في السودان، سبقت الطيب صالح، وتزامنت معه، وتلتُه أيضاً. أخذ الطيب شهرة كثيرة لتميزه وإبداعه، ولأنه لم يبق أسير السودان، فكتب في الخارج وسهل التعرف إليه. لكن هناك أسماء مثل إسحق ابراهيم إسحق، وبشرى الفاضل، وعلي المك، وزهاء طاهر، ومحمود محمد مدني لم يكونوا محظوظين مثل الطيب رغم إبداعهم وجودة منتوجهم. اليوم هناك أجيال جديدة، ربما يقف على قمتهم أمير تاج السر، وعبد العزيز بركة ساكن. كأصحاب تجربة روائية مستمرة ومتميزة. كما أن هناك حراكاً شبابياً جديداً يحاول التغلب على أزمات الرقابة والنشر بقدر ما يستطيع، فينشر رواياته كاملة على الانترنت، أو يطبعها خارج السودان ويوزعها داخله بعد ذلك. هذا حراك مهم وسينضج مع الأيام ويفرز أسماء مهمة بالتأكيد.
■ لماذا تركت السودان؟ ولماذا اخترت مصر دون غيرها للإقامة؟ والآن بعد أن تغيرت الأوضاع هل تفكر في اختيار مهجر جديد؟
– لم تعد بلادي آمنة لي. غيري كان يمكنه البقاء بسهولة. هناك من يواجهون ما هربت منه كل يوم بقلوب لا تجفل. لكني لست من النوع الصدامي، ولا أقدر على الحياة وأنا أنظر خلفي. أنا رجل أحب الهدوء، والخصوصية. القاهرة كانت بالنسبة لي المدينة التي أعرفها. لو اخترت غيرها لعانيت وحشة غربة أكبر. انتقلت إلى مدينة أعرف شوارعها وتاريخها. حتى لو لم أكن أعرف فيها شخصاً. أنا أعرف شارع سليمان باشا الفرنساوي، وأعرف تاريخه. وأمرّ تحت تمثال إبراهيم باشا بن محمد علي وأتذكر تاريخ حروبه، وأعرف متى وُضع في ميدانه هذا. أعرف تلك الأسماء على أغلفة الكتب، أغلبها إن لم يكن كلها. ليس من الضروري أن أعرف المارة حولي، أو باعة الكتب. كانت تكفيني منها معرفة التاريخ والثقافة لأعتبرها وطناً آخر. ورغم تغير الأوضاع فلا أنوي مغادرتها قريباً.
■ شاركت المصريين في الثورة، وكنت حاضراً في الميادين والشوارع، هل تؤمن بما يسمى ثورات الربيع العربي؟ وكيف ترى الوضع في السودان ومصر والمنطقة؟
– أؤمن بالتغيير، وأن أوضاع منطقتنا العربية والأفريقية سيئة جداً. وأن الهزات الثورية ستتوالى. هذا أمر لابد منه. الثورات – رغم ما يمكن أن تحدثه من آثار – ترياقٌ ضد الفناء. لو مشينا طريق الشمولية والفساد هذا إلى نهايته فسننقرض. أنا مؤمن بالربيع العربي. ومؤمن أن التغيير لم ينته. الثورات ليست انقلابات عسكرية خاطفة تستولي على الحكم. الثورات حراك طويل جداً يؤتي ثماره بعد زمن. الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان آتية بلا شك. وستذهب الشمولية والحكم القمعي وأوهام الحكم الديني والخلافة إلى مكانها الذي يليق بها جوار كل الأفكار الشمولية التي سقطت في كل العالم الحديث.
■ تقول إن قدم الثورة ثقيلة مثل قدم الطغيان… كيف تفسر ذلك؟
– الثورة انفجار نتيجة لسوء الأوضاع. حين ينفجر المقهورون فهم لا ينفجرون بتهذيب وتخطيط ووعي. لذلك من الطبيعي أنهم في فورة ثورتهم يسيئون لغيرهم، ويسقط أبرياء تحت أقدامهم. هل كل الذين أعدمتهم الثورة الفرنسية يستحقون ذلك؟ كم فقير لا شأن له بأسرة القيصر مات جوعاً أو تضرر دكان عمله البائس في الأيام التي كان البلاشفة فيها يهزون موسكو طلباً لحقوق الفقراء؟
لو كانت الثورة اختياراً فهي أمر سيء. لكن الثورة انفجار لا مفر منه. إنها الكيّ الذي لا يمكن منعه، إلا بتغييرات ديموقراطية تُجريها الأنظمة التي تُخيف الناس من ضرر الثورات.