نوافذ للحوار| منذر مصري: علينا أن نبعد الكذب عن الشعر

لم تنفع أية مقدمة هنا للتعريف بالشاعر السوري الذي أوجد منعطفه الجمالي بشجاعة سبعينيات القرن الفائت؛ منتشلاً اللغة الشعرية من برجزها وتكلفها المزمنين وفجائعيتها المضجرة؛ فمنذ صدور كتبه الأولى «آمال شاقة، الكره أعمى الحب يرى ـ تأخرت في الصدور حتى 2006» بزغت قريحة مغايرة لكتابة قصيدة النثر التي خاضت مجازفتها بقوة مع صدور مجموعته «بشر وتواريخ وأمكنة – 1979» أتبعها بكتاب «أنذرتكَ بحمامةٍ بيضاء 1984» كان بالشراكة مع الشاعر الراحل محمد سيدة وشقيقته الشاعرة مرام مصري. عندها واظب منذر مصري على حساسية صادمة مصدراً «مزهرية على هيئة قبضة يد – 1989» وصولاً إلى «الشاي ليس بطيئاً – 2004» و»من الصعب أن أبتكر صيفاً – 2008».

هنا يجيب صاحب «دعوة خاصة للجميع» عن أسباب إعادة إصدار كتابه «داكن – دار أرواد – طرطوس» بعد منع تداوله من قبل وزارة الثقافة السورية قبل خمسةٍ وعشرين عاماً.

«السفير الثقافي» التقت منذر مصري وكان معه الحوار الآتي:

÷ ثمة مناسبة لا يمكن تجاهلها في إعادة طباعة كتابك «داكن» الذي سبق أن أصدرته عن وزارة الثقافة السورية عام 1989 وتم سحب نسخه كاملةً من التداول، اليوم وبعد خمسة وعشرين عاماً على تلك الحادثة، هل تعتقد أن قصيدتكَ قد اكتملت أو أتمت قولها الشعري؟

} لا علاقة لإعادة طبع وإصدار داكن، بشيء من هذا. حتى وإن كنت الآن، أعتقد أن قصيدتي قد اكتملت وأتمت قولها الشعري. ولكن ولو قبلت بهذا على سبيل الافتراض، لا أدري من أين لي أن أعتقد ذلك، كما لا أدري من أين لها أن تفعل، أن تكتمل على حد قولك. لقد أصدرتُ الكتاب أولاً بأول، لأنه كتاب لي لم يصدر سابقاً، مثله مثل عدد لا بأس به من مجموعاتي الشعرية غير الصادرة بعد، والتي سأصدرها، إن قُدِّرَ لي، في المستقبل القريب، لأنه، كما تعلم، ما عاد لدي الكثير من الوقت، تباعاً. إلى أن تُجمع وتصدر كأعمالي الشعرية الكاملة.. يوماً. غير أني أستطيع الادعاء، أن اختياري له بالذات ربما خضع لشعور ما سمحت له أن ينتابني بأنه كان أقرب للنبوءة لما يحصل الآن. مع إني كشخص يدعي كتابة نوع بديل من الشعر، شعراً محسوساً خالياً من الطلاسم والألغاز، يوماً لم أصدق بهكذا إدعاءات.

÷ تقول في «داكن» إن «الشعر خبز الشعوب».. هل ما زال الشعر كذلك في زمن الزلزال العربي المتناوب والمقابر الجماعية؟

} أقول في «داكن» أشياء كثيرة، متنوعة وحتى متناقضة، أمّا «الشعر خبز الشعوب» فهو شيء قاله يوماً (هو شي مينه) الذي أهدي له القصيدة. لكني أضيف عليه في نهايتها، بأن الشعر يُصنع أيضاً من المرارة والغضب. كما أقول في قصيدة أخرى: «وهذا لا يزيد عن نصف الحقيقة العاري، التي تمضي بقدميها الداميتين، على الطريق التي يراها بها الجميع، ويسمعها بها الجميع، ولا .. يصدقها أحد». أما إذا كان الشعر ما زال خبز الشعوب: بالطبع لا. فقد جاءت الأيام التي قتلت هذا النوع من الاستعارات.

بورتريه

÷ القصيدة لديك تأخذ هيئة بورتريه تكتبه بضمير المتكلم دافعاً عناصر فنية عدة للانضواء تحت هذا الشرط، فيما تخضع اللحنية أو الإيقاع لكتابة خيطية تنسل منها عباراتك التي تشكّل جسم القصيدة.. أية حكمة من ذلك ترمي إليها؟

} أجد أنه في الحقيقة ليس بالأمر السهل، ولكني أستطيع موافقتك ولو عموماً أن قصيدتي قد، من الممكن، أن تكون صورة شخصية ما، وخاصة عندما أكتبها بضمير المتكلم، أي عندما أصف فيها نفسي، أو شيئاً أتصوره عن نفسي. ثم إنه صحيح أيضاً اني أُخضِع أغلب عناصرها الفنية ومكوناتها لهذا الشرط، ولكن يهمني أن أقول إن هذا يتم تحت شرط أساسي هو قبولي بها في النهاية، واكتفائي، مع بعض الرضا، بما أضفت وحذفت وأبدلت أثناء كتابتها.

كما إني أوافقك على تصورك أن هناك خيطاً ما أتمسك به وأنا أكتبها. أو قل خيوطاً، عملي هو أن أنسلها دون أن تنقطع، ثم أن أضفرها على نحو غامض ولكنه حسب قولك قد يوحي بحكمة ما. حكمة معاكسة طبعاً، كأن أقول: (الحياة أبي والموت أمي) أو: (أبعِدِ الحِكمةَ عنّي/ هذهِ المياهَ الراكِدة/ هذهِ الشمسَ الغارِبة/ هذا الوجهَ المليءَ بالتجاعيد). ليبدو الأمر في النهاية وكأنه حكمة تخريبية أكثر منها حكمة أخلاقية، لدرجة أنه، وفي ذات القصيدة: (تعالَ وأحضِر لي معكَ غانيةً/ غانيةً/ أقربَ ما تكونُ إلى طِفلة/ بساعدَينِ نحيلَينِ/ وساقينِ مكسوتينِ بالزَغب/ وبينما هي تلهو على رُكبتي/ أعِدُكَ بأن/ لا أدري كيفَ/ أُعطيكَ أفضلَ قصائدي.). تصور: (طِفلة/ بساعدَينِ نحيلَينِ/ وساقينِ مكسوتينِ بالزَغب/ تلهو على رُكبتي). أيّ حكمة هذه!؟

÷ «داكن» تجربة رسخت أسلوبكَ الفني في كتابة قصيدة خالية من برجز الخطابة وتكاليفها، هل يضايقكَ هذا الأسلوب، هل يحدكَ، خصوصاً أن ثمة شعراء بنوا عليه في محاولة لتقمص أدواتكَ أو ربما خيانتها؟

} طبعاً لا يضايقني هذا، كونه الأسلوب الذي وجدت نفسي أكتب به، والذي دعوت له صراحة، منذ بداية تورطي بالمشهد الشعري السوري. وهو ما عمّرت به الجزء الأكبر من جسم تجربتي، ولكنه بالتأكيد عمل عمله في إعاقتي، وكان لا بد لي مع مرور الوقت أن أخرج منه، ولا أدري إن كنت فعلت، ذلك أن الآخرين لم يلحظوا ما كنت أعتبره مختلفاً وجديداً في كتابتي، ما ولد في (الشاي ليس بطيئاً) وأظنه قارب النضج في (من الصعب أن أبتكر صيفاً) ثم.. لا أدري كيف جاءت متغيرات قوية أخرى وجعلتني أدير ظهري له أذهب لغيره، أو ربما أعود لسابق عهدي بكتابتي وإن على نحو أشد سردية وإنشائية.

أما ان ثمة شعراء بنوا عليه ما وصفته محاولة لتقمص أدواتي أو ربما خيانتها، فهذا ما لم أنتبه له يوماً، لا من باب الترفع، ولا من باب عدم المبالاة. فقط لأنه أمر من الطبيعي أن يحدث. نعم من الطبيعي أن يلتقط منك الآخرون شيئاً ويشوهوه أو ربما يعملوا به أفضل منك: (خُذوها وأشبعوا بها شهواتِكم/ قصائدي/ صرختُها مِراراً/ ليست أبنائي).

÷ أية ملكة نفسية تتحكم اليوم بأعصاب قصائدكَ التي تبدو سهلة ومتاحة حينما يتضافر الشخصي مع الموضوعي، المرئي بالغائب المستحضر، الفقد باللوعة، الغناء بالنشيج.. كأنكَ تعبتَ من تعريف الشعر أم ماذا؟

} أظنني فعلت ما بوسعي وتنطحت مراراً لمحاولة تعريف الشعر، هذا صحيح، إلاّ إني لم أتعب من ذلك، لأنك ما دمت تكتب، لن أقول في كل قصيدة، ولكن في كل مرحلة من مراحل تجربتك، فأنت تقوم بتعريف الشعر. أول ما وقعت عليه في هذا المجال، هو: (الشعر غريزة. ولست أدري كيف لم يكتشف ذلك أحد من قبلي). وكان هذا الاكتشاف وليد أمرين، الأول: إنني بدأت بكتابة الشعر دون أية تنشئة شعرية أياَ كانت. وكأنه استجابة لشعور مبهم، حاجة داخلية غايتها أن تشبع، مثلها مثل الجوع للطعام، أو الجنس. ما أدى بي إلى تعريف أكثر تحديداً وهو: (لا أدري لماذا لا يأخذ أحد الشعر على حقيقته كجنس). وهذا ما حرفياً ما يقوله (داكن): (ولأنَّ لا أحدَ يأخذُ الشِعرَ/ على حقيقتِهِ/ كجِنس/ تكونُ تقدُمتي/ ديكاً ينتهي بذنَبِ ثُعبان/ وأسداً له مِنقارُ نِسر). الأمر الثاني هو تعريف الإنسان بأنه كائن شعري. وهنا يصير تعريفي هذا: (الشعر غريزة إنسانية). غريزة خاصة بالبشر.

تعريف آخر دفعني إليه، شعوري بالتناقض بين دعوتي للصدق في الشعر: (علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده عن الحياة) وبين ما آلت إليه تجربتي الشعرية، من اختلاق للأشخاص والحوادث وربما الأحاسيس: (الشعر توثيق دقيق للأكاذيب). وإذا كان التعريف السابق ينبئ بمدى تحولاتي، فإن آخر تعريف سأذكره هنا، ذلك أني كما يبدو لي الآن قد قمتُ بتعريف الشعر أكثر من أي شاعر أو مدعي شعر آخر، أنا الذي اقول: سوف يدل على أي مكان وصلت إليه: (الشعر هو معنى العالم الذي ليس له معنى).

÷ ماذا عن «الكلمات التي لم تقلها»، والتي «خشيتَ عليها من أن تدوسها الأقدام، الكلمات الحجرية الفاحمة التي لم تصرخها»؟ ألهذا الحد تصير القصيدة كائناً حياً حين يقولها القلب ولا تجرؤ الشفاه على قولها؟ أسوق سؤالي هنا من طبيعة نظمكَ لأنفاس عبارات القصيدة؟

} صادقاً أجيبك، انه لم تكن لدي يوما أية فكرة عما كانت هذه الكلمات. حتى وإن حاولت الآن أن أقولها لك، أو أخترعها لك، فلن أستطيع. غير أن القصيدة برأيي وإن استدعت السؤال، فهي لا تتطلب جواباً. أما عن مدى ان تصير القصيدة كائناً حياً، فإنها بعرفي لا تفعل أبداً إلاّ بحالة تمثلها فينا. أقصد عندما يحدث ونتقمصها، وتصير نحن. القصائد التي أحببتها وتأثرت بها، عاشت في داخلي ككائنات حية حقيقية: «كامرأة تخلع ثوبها/

القصيدة الهاربة

÷ «القصيدة الهاربة» أيضاً تجعلني أسألكَ عنها.. هل ما زالت تمعن النظر في ما لا تراه، ولا تسمعه كي تجد الشعر هناك؟ فعلاً أود أن أعرف أي قصيدة تفكر بها اليوم يا منذر؟ القصيدة التي تدعها تهرب أم القصيدة التي تقع في شراكك؟

} لطالما أشفقت على القصائد التي كتبتها، ليس فقط من قسوتي عليها، مذكراً إياك بما كان يقوله لي بوعلي ياسين: «لم أكن أصدق بوجود من يعذبه الشعر مثلك، ولا من يعذب الشعر مثلك»، لأنه بالرغم من البساطة التي تتصف بها لغتي، فإني باعتباري لها وسيلة، وباعتباري الشعر بدوره وُجِد ليساعد، بل ليخدم، البشر، أقوم بعمليات ترويض وقسر وإخضاع شديدة لكليهما. كثيراً ما سمعت صوت تكسيري لعظام اللغة، وخلعي لمفاصلها وأنا أستخدمها، يكفي فقط أن أورد هنا، النصف الثاني للقصيدة التي استشهدت بها في جوابي السابق: «لا بل تكتب القصيدة/ كبد معدنية/ تنهش/ كبداً دامية».

÷ «إما أن أموت؛ وإما أن أكتب هذه القصيدة» تقول في «داكن».. ألهذا الحد تعني لكَ كتابة الشعر؟ أم أن الجملة هنا محض «كلمات يائسة»؟

} ليست يائسة على الإطلاق. ولكن نعم كتابة الشعر تعني لي ذلك: «عملي هو ما أقوم به/ لآكل وأشربَ/ أمّا الشعر فهو ما أقوم به/ لأحيا». علاقة شعري بالموت باكرة جداً. في (داكن) قصائد عديدة عن الموت: (إنَّهُ يرتعُ في حديقتي/ يقضُمُ ورودي/ ويلعقُ دمَ أشجاري).

÷ تلجأ مراراً في «داكن» إلى ملابسات الصورة والهروب من خداعها؛ كأن ما تكتبه لا ترسمه، وكأن ما ترسمه يصبح له شكل آخر؟ أيهما أبقى هنا الكتابة أم الرسم؟

} أظنني سأختار الطريقة الأسهل في الإجابة على سؤالك هذا، بأن أقول: «في الرسم الأبقى هو الخط واللون والصورة، أما في الشعر، فالبقاء للكلمات والجمل والمعاني. أو ربما يخطر لي أن أقلب جوابي، عاليه أسفله، وأقول: في الرسم الأبقى هو الكلمات والجمل والمعاني، أما في الشعر فالبقاء هو للخط واللون والصورة.

÷ في ملابسة تاريخية وشعرية ضمها كتاب «داكن» تذهب نحو تقمص شخصية «منذريوس مصريام» الخيالية التي تعبّر عن مراكمة حضارية تسلكها في كتابة نصوصك الشعرية؟ وفي «الشاي ليس بطيئاً» تقول أيضاً «ريلكه أنا ومنذر مصري شخص آخر» إذاً من كتب «قميص الصدأ، ساقا الشهوة؛ إغفاءة الجنون؛ عينا ألعازر» ؟

} في (داكن) أيضاً أقول: «ولأنّي لا أصدِّقُ أنَّهُ أنا/ مَن كتبَ كُلَّ هذهِ القصائد/ ولأنّي سوفَ لا أصدِّقُ/ في يومٍ من الأيامِ/ أنَّهُ أنا/ مَن يكتُبُ الآنَ هذهِ القصيدةَ». بالتأكيد مهما بلغ عنادك أن تكون أنت في الفن، فإنك، شئت أم أبيت، سوف تكون أناساً آخرين في الوقت نفسه. ليس صدفة أن يكون عنوان مختاراتي التي صدرت عن قصور الثقافة بالقاهرة: (… لأني لستُ شخصاً آخر) بينما كان عنوان مختارات شاعر سوري آخر، ربما يزيد عني أهمية، وهو نوري الجراح: (رسائل أوديسيوس) فقد دل ذلك على الاختلاف الجذري، الجوهري، بين تجربتينا. أنا شخصاني وجودي، هو أسطوري مثالي.

منذريوس مصريام، شاعر سوري من اللاذقية، عاش في القرن الأول للميلاد، والتقى بولس الرسول وجرت بينهما مناقشة علنية أمام الناس. وصلت لنا أخبارها وشذرات مما قيل فيها. أما تشابه اسمه مع اسمي، فكما ذكرت في نهاية مقدمتي للقصائد الثلاث التي نجت من الضياع، مصير كم لا يحصى من النتاج البشري بأنواعه، فقد كان السبب الرئيسي الذي دفعني للاهتمام به. نعم منذريوس مصريام شاعر حقيقي، ولا أجد الآن أي سبب للاعتراف بأنه نتاج لمخيلتي الشعرية المضطربة التي طالما أنكرتها على نفسي.

قصيدة النثر

÷ هل تظن أن قصيدة النثر السورية استنفدت اليوم خدعها وجمهورها وأشكالها الفنية، أم أن التجربة لم تكتمل بعد، خصوصاً في ضوء ما يحدث اليوم في سوريا؟

} سريعاً ما تستنفد الخدع. هناك قول أظنه من تعاليم (التلمود اليهودي) أردده وكأنه من اختراعي: «ليس بالحيلة تحصل على السعادة» لكني أوسعه وأقول: «ليس بالحيلة تصنع فناً» قصيدة النثر السورية باقية، على نقصانها، بفضل صدقها وحقيقيتها. وبالتأكيد التجربة مستمرة، مستمرة بقضها وقضيضها، بتنوعها وتعددها وتناقضاتها، وهذا بالذات ما يبقيها حية.

÷ تنتمي بقوة لما أسميته في مقدمتكَ التي وضعتها عن أنطولوجيا الشعر السوري – «منشورات دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008» بانعطافة السبعينيات.. برأيك أين وصلت هذه التجربة اليوم مع رحيل العديد من شعراء تلك المرحلة أو سكوت بعضهم؟

} ما وصلت إليه لا يتعلق برحيل، بموت، العديد من شعرائها، ولا بسكوت بعضهم، فهذا أمر طبيعي بالنسبة لأعمارهم الفيزيولوجية، وكذلك لدورهم الشعري. ذلك أن الانعطافة حدثت، بعرف الجميع، وكما لم يكن يتوقع الجميع، كانت حادة وقاسية. آخذة معها الشعر السوري إلى أقصى ما يمكن أن يذهب إليه.

÷ كنتَ من أشد الشعراء السوريين تعرضاً للهجوم في الصحافة والكتب التي أصدرها نقاد اتحاد الكتاب العرب، فكانت أكثر تهمة توجه لك هي الانضواء تحت «وهم الحداثة» وتجريدك من شعرية ما تكتب.. برأيك هل انطوى ذلك الزمن الذي برأتَ فيه من كل خصومك؟ أم أن الوقت لا يزال متاحاً للرد عليهم؟

} نعم، لم يكن هناك حائط في المضمار الشعري أقل ارتفاعاً من حائطي ليقفزوا فوقه أو ربما يمتطوه ويصولوا ويجولوا عليه. كنت الدريئة المثلى، القريبة والكبيرة، التي لا يمكن أن يخطئها أي مطلق سهم، وكل رامي تهمة، على ما آل إليه الشعر السوري منذ نصف قرن لليوم. والجميل أن هذا كان يرافقه مدائح لا تنضب للماغوط، وأنسي الحاج، ولسوريين من مجايليي، مثل نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد، وكذلك رياض الصالح حسين. طبعاً لم يكن الهجوم مقتصراً علي، أي ليس فقط أنا، بل أنا عموماً هو من مضى بالشعر، وبقصيدة النثر، إلى تلك الهاوية من الانحطاط، اللغوي و.. والشعري. أما المضحك، فإني كنت أستغرب كيف يسوقون كل هذا، مستشهدين بأسطر ومقاطع وقصائد، أعتبرها أفضل ما جادت به قريحتي!؟

أحببت تعبيرك، «انطوى ذلك الزمن الذي برأتَ فيه من كل خصومك» رغم أني يوماً لم أشعر بهم خصوماً. كما أني يوماً لم أكن مريضاً بهم لأبرأ منهم. المريض كان شعرهم وهم أنفسهم وربما، ولو على سبيل المزاح، زوجاتهم!؟ أما ما إذا كان الوقت لا يزال متاحاً للرد عليهم، فلا أدري إن كنت فعلت الآن، عندما كتبت: «عندما سأمدّ يد العون لأعدائي، سأكون قد تخلصت من ذلك الاحتراز الذي أعاقني طوال حياتي».

÷ لكن هل تعتقد أن قراء الشعر اليوم بخير أم أن الشعراء باتوا يقرأون لبعضهم على أكثر تقدير؟

} إحدى الصور الأشد بؤساً للشاعر السوري، شاباً كان أم مخضرماً، هي عندما يطبع مجموعة شعرية على حسابه، أو ربما على حساب طعام وشراب أبنائه، وهذه حقيقة بالنسبة لكثيرين، ويصير لا هم له إلا أن يقوم بإهدائها للأصدقاء وغير الأصدقاء.. فقط ليتكرموا بقراءتها، وغالباً لا يفعلون.. وربما يقرأونها، أو يكتفون بقراءة عنوانها، لا لشيء إلا للتندر بها وبصاحبها، وقد حدث هذا، بغض النظر عن قيمة الكتاب، أمامي كثيراً. ليس الجميع، ولكن الغالب من الناس، الكتاب الذي يهمهم، ويرغبون بقراءته، هو الكتاب الذي يشترونه. الكتاب الذي يدفعون مالاً لقاء امتلاكه والاحتفاظ به.

÷ هربت مراراً من لقب الشاعر الكبير ومن صفة الشاعر النجم..؟

} لم أجد بداً من مقاطعة المذيعة في إحدى مقابلاتي التلفزيونية احتجاجاً على لقب الشاعر الكبير الذي راحت تناديني به. فانزعجت وألغيت مداخلتي حينها.. لا يوجد شاعر كبير في الشعر الذي أكتبه وأصدق به. لا يوجد شاعر كبير في قصيدة النثر من بودلير العصابي، إلى بوكوفسكي المجنون، إلى شوقي أبي شقرا الأخرق. ليس هذا من أغراضها ولا من غاياتها. حتى اني كثيراً ما شعرت بالإحراج عند وصفي بالشاعر، فلقب شاعر ذاته بدا لي ومنذ بداية كتابتي، ليس مقبولاً بالنسبة لي. لأني أرى أن الاقتراح الذي يقدمه الشعر الجديد، ليس فقط تغييراً في بنية الشعر، كأدوات وأساليب بل في طبيعته وتعريفه، ليشمل هذا التغيير طبيـعة وتعــريف الشــاعر نفسه.

ومرة أخرى قلت: ما أن يطلق لقب الشاعر الكبير على شاعر ما، حتى يسوء بشخصه وبشعره، وربما بكل شيء. وقد خبرت هذا بعلاقتي مع شعراء .. كبار عديدين.

÷ ماذا عن اللاذقية اليوم المدينة التي تعيش فيها رغم المركزية الغاشمة للعاصمة دمشق ثقافياً وفنياً وسياسياً، ما زلتَ تكتب وتفكر وتعيش هناك على رمالها وبرفقة نوارسها الغامضة؟

} اللاذقية ليست اختياراً: «شرط الحب أن تحب وأنت تعلم أن من تحبه، سوف يتغير ويتبدل، ويوماً لا يعود هو هو» ذلك أني بطريقة أو بأخرى فلسفت بقائي بها كدين مستحق للمكان. ومن الأشياء التي تعرف عني، مقاطعتي لدمشق، وذلك لما ذكرته أنت بالضبط، ويزيد عليه ذلك التملق والتغني الأجوف بها. غير أن حياتي في اللاذقية ليس بهذه الرومانسية التي ذكرت. حتى إنه منذ ما يقارب الشهر، قام البحر بمحاولة كادت تكون ناجحة لقتلي غرقاً.. اللاذقية مدينة خائفة، تنام بقسوة وتحلم بقسوة.. وتستيقظ ذاهلة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى