نوافذ للحوار| أيمن زيدان: لتمزيق شمّاعة الأزمة

يتقن أيمن زيدان (1965) صناعة البهجة، يلوّن حديثه بارتجالات ضاحكة. يبتسم حين يداعب السؤال مساحة نوستالجية من ذاكرته، لكنّ فرحه يبدو ناقصاً. فالحزن في عيني “مفيد الوحش” صار عنصراً أصيلاً. يتحايل على ألمه حين يأتي على ذكر أبنائه الستّة، وكلّ واحد منهم مقيم الآن في بلد. يعترف أنه يشتاق إليهم جميعاً، ويكتفي بابتسامة. يتكلّم عن دمشق بلغة شعرية تختزل وجعاً عميقاً. يسحب ما تبقى من نيكوتين في سيجارته الثامنة، ثم يطفئها ويختتم حديثه قائلًا: “سوريا لا تستحق كلّ هذا الخراب، لا أريد أن أصدق أنّ وطن الياسمين يمكن أن يصير، في نهاية المطاف، وطنًا للرصاص”.

***

• طالت الانتقادات مشاركتك في مسلسل “باب الحارة” في جزئه السادس، وعدّتها خيارًا في غير مكانه إذا ما قيس بمسيرتك الفنيّة الطويلة، لماذا وافقت على المشاركة في هذا العمل؟

أنا ممثل محترف، التمثيل مهنتي وأعتاش منها، الحرب في سوريا تسببت لي بخسائر مادية كبيرة، والجهة المنتجة لـ”باب الحارة” عرضت عليّ أجرًا لائقًا. وافقت على المشاركة في الجزءين السادس والسابع لأسباب اقتصادية بحتة، هذا كلّ ما في الأمر.

• إذا كان الدافع وراء مشاركتك في باب الحارة اقتصاديًّا، كيف تفسّر اعتذارك عن أعمالٍ اجتماعية مثل “القربان” و”عناية مشددة” و”شهر زمان”؟

اعتذرت عن الأعمال السابقة لأسباب فنيّة بحتة خاصة بي. عليّ أن أعترف أن الظروف المهنية والحياتية، في السنوات القليلة الماضية، دفعتني للعمل في مسلسلاتٍ لم أكن متقاطعًا معها، ومن الآن فصاعداً لن أوافق على الانخراط في مشروعٍ لا يصون القيمة الفنية التي حرصت على بنائها خلال العقود الثلاثة الماضية. يحقّ لي أن أبحث عن التفرّد بعد ثلاثين عامًا من الاجتهاد.

• هل تقصد أنّك لن تشارك في أعمالٍ تقوم على البطولة الجماعية؟

تخرّجت من المعهد العالي للفنون المسرحية العام 1981، واتخذت قرارًا بألّا أدخل المعترك الفنيّ إلّا من بابه الواسع. انتظرت حتّى العام 1993، وقدمت “نهاية رجل شجاع”، حرصت بعدها على السير بخطواتٍ مدروسة، لكنّني لم أكن أتخيل أن تصل الدراما السوريّة إلى ما وصلت إليه. لا أرفض البطولة الجماعية من حيث المبدأ، وإنمّا أشترط احترام تاريخي الفني للمشاركة في أي عملٍ جديد. آن لنا أن نرقى بالدراما السورية من عتبة الارتجال الفوضوي إلى عتبة الصناعة الحقيقية، وأن ندرك أن الدراما ركن أساسي من المشروع النهضوي. وبالعودة إليّ أقول: إنّ البطولات الجماعية ليست بالضرورة حاملا للمشروع الدرامي، وأنا شخصيًّا لم أقتنع يوما أنها واحدةٌ من مفاتيح النجاح، لذلك لن أشارك في عملٍ لا يعتمد عليّ كرافعة فنيّة.

• تربطك علاقة دافئة بالقاهرة، وكان لك مشاركات فنية كثيرة في مصر، لماذا عدت هذا العام إلى سوريا، ولم تستفد من أحد العروض التي قُدمت لك في أرض الفراعنة؟

إقامتي في مصر لم تكن خيارًا، قضيت فيها أشهرًا لاستكمال علاج زوجتي، أوشكت، خلالها، أن أصاب باكتئاب حاد. أتعبني الحنين إلى الشّام. أعترف بأنّني اكتشفت مفاهيم جديدة للوطن في خضمّ الأزمة، وشعرت أنني عارٍ خارج دمشق… كان لا بدّ لي من العودة.

• أنت تدقّ ناقوس خطر انهيار الدراما المحليّة منذ عقدٍ كامل، وحين دُعيت إلى ورشة لإنقاذ الدراما السورية اعتذرت عن عدم تلبية الدعوة، ألا تجد في سلوكك شيئًا من التناقض؟

انتهت الورشة، وخرجَت بورقة عملٍ تحمل أفكارًا نظرية خلّاقة، وفي اليوم التالي، أعلنت إحدى الفضائيات المحليّة عن بدء عرض واحدٍ من الإنتاجات الدرامية المخجلة. لست أشكك في نوايا المجتمعين، لكنّني أقارب الأمر من زاوية مختلفة، فالمساءلة والمحاسبة يجب أن تكونا فاتحةً للحلّ. النظر الافتراضي إلى النصف الملآن من الكأس هو كارثة بحدّ ذاتها، ما معنى أن تفاخر بإنتاج ثلاثة أعمالٍ جيدة وتتعامى عن خمسين عملًا رديئًا؟ علينا أن نبحث في الأسباب التي أوصلتنا إلى القاع، وعلينا أن نمزّق شمّاعة الأزمة؛ بعض الأصوات تعتبر العمل في ظلّ الظروف الخانقة التي نعيشها مكرمة بحقّ المهنة وحقّ البلد، هذا هراء لا بدّ من منع استمراره. حين تكون هناك محاسبة جديّة تبشّر بطوق نجاة حقيقي سوف أكون حاضرًا لتقديم ما يلزم.

• لم تنفصل عن المسرح يومًا، كيف ترى حاله في ظلّ ثقافة استهلاكية خالصة تجتاح حياتنا بجميع مفاصلها؟

ليس المسرح بمنأى عن طوفان الخراب الّذي نال من كلّ شيء، لكنّ الأمر هنا شخصيّ للغاية. أنا عائدٌ إلى الخشبة، سوف أخرج عرض “دائرة الطباشير” للكاتب الألمانيّ الكبير برتولد بريخت. كلّ شيء صار مُعدًّا للبدء بصناعة حلمٍ جديد. في المسرح أكاشف روحي وأعود لأتلمّس طزاجة المهنة. تربطني بهذا الجنس الفنيّ جاذبية لن تزول.

• قدّمت في العام 2010 مسرحيّة “راجعين”، سبقها كلّ من “سوبر ماركت” و”سيدي الجنرال” إضافة إلى مشاريع كثيرة اهتمّت بصناعة فرقٍ مسرحية جوالة تطوف في ريف دمشق، أنت وفيّ لجمهورك المسرحيّ، هل هو وفيّ لك؟

نعم. لا. ربما. لا أعرف. أنا مخلص لنفسي ولمشروعي ولعشقي ولشغفي في المهنة، هذا أهمّ ما في الأمر.

• ما هي المعايير التي تعتمدها للحكم على نجاح تجربتك المسرحية؟

الإجابة على هذا السؤال معقدة بعض الشيء، فذائقة الجمهور لا يمكن أن يعوّل عليها في استصدار أحكام القيمة، كما أنّ الحالة النقدية في سوريا ليست على ما يرام. أستطيع أن أقول أنني المحكمة العليا لمنجزي المسرحيّ. كان بريخت يحتفظ، في مكتبه، بلوحة تُدعى “الشكّاك” لرسّام صيني، دُعيَت بهذا الاسم لأنّ التشكيل الذي تتضمنّه يدفع الناظر إليها نحو الشكّ بتفاصيل كثيرة. كان المسرحيّ الألمانيّ يطالعها باستمرارٍ أثناء قيامه بفعل الكتابة، محرّضًا نفسه على إجراء مراجعاتٍ مستمرّة لنتاجه الورقيّ بهدف تجويده. النقد الذاتي بالنّسبة لبريخت كان مجديًا تمامًا. أدّعي أنّني حريص على اعتماد مقاربة مماثلة في إدارتي لمشروعي المسرحيّ.

• هل تستطيع تسجيل نبوءة تخصّ مستقبل سوريا؟

يقول الحاضر إننا نعبر نفقًا مظلمًا في نهايته ضوء، كل ما علينا فعله هو أن نختصر مسافة هذه العتمة، كي نقترب من لحظة الانفراج المتوخاة، وهذا يعني أن يقوم كل منا بدوره الحقيقي من موقعه ومكوناته، وهي مسؤولية تاريخية تجاه وطن يعني الحياة. العمق التاريخي والحضاري يؤكد دون لبس أنّ سوريا وطن لا يمكن أن يهزم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى