نيل جيمان وقصة الآلهة المعاصرة
نيل جيمان وقصة الآلهة المعاصرة..بداية من الثورة الصناعية الأولى دخل العالم الغربي في مرحلة جديدة من الصراع، كانت من نتائجها زعزعة الإيمان بالمعتقدات الدينية، بسبب تقديس الحياة المادية وما توفره من مزايا كفيلة بأن تحيل حياة الإنسان إلى جنَّة على ظهر الأرض، بدلًا من انتظارها في العالم الآخر. ولهذا السبب استطاعت المادة الجور على الحياة الروحانية، مما أفضى إلى خلق صراع قوامه نشوء علاقة عكسية بين وتيرة التقدم والمعتقدات الدينية. وبانتقال سبل الرفاهية والتقدم من مكان لآخر، لم تسلم مجتمعات العالم من تلك الظاهرة، بيد أنها أكثر تفاقمًا في المجتمع الأميركي الذي قوامه مهاجرين لم يرحلوا عن بلادهم بأجسادهم فقط، بل جلبوا معهم معتقدات متباينة تشاركهم الواقع وتهديهم.
وفي هذا الإطار، يحاول الكاتب الإنجليزي نيل جيمان (Neil Gaiman) في “آلهة أميركية” (American Gods) 2001 أن يبلور ذاك الصراع من خلال سطره لرواية تدور أحداثها في فلك أسطوري، لكنه ليس بمعزل عن الواقع، فكانت النتيجة أن كتب ملحمة لأسطورة معاصرة أبطالها آلهة العالم القديم في الحضارات والثقافات المختلفة، مثل الحضارة النرويجية والمصرية القديمة والهندوسية والألمانية والأيرلندية والعربية والأفريقية.
وتصوَّر أحداث الرواية صراع الآلهة المستميت للتشبُّث بالإبقاء على وجودهم في العالم الحديث. أمَّا المعضلة، فهي أن البقاء الذي يضمن لهم مكانة مميَّزة في عالم يزيد تقدُّمه يومًا تلو الآخر شرطه استمرار وجود من يؤمن بهم، فبدون الإيمان بهم لن يتسنى لمعجزاتهم التجلِّي، وبالتالي يطويهم النسيان. ولتوكيد أن التشبث بالإيمان بهم ليس بالأمر اليسير، عمد جيمان في روايته إلى استخدام الأسلوب الساخر والتصوير الكاريكاتيري، والذي من خلاله استطاع أن يصوِّر اشتباك آلهة العالم القديم في صراع حامي الوطيس مع الآلهة الحديثة؛ مثل إله التكنولوجيا وإلهة التلفاز والثقافة الشعبية وآلهة نظرية المؤامرة وإله العولمة، بالإضافة إلى آلهة المركبات وآلهة عمليات التجميل، وغيرهم من الآلهة الحديثة التي أصبحت العلوم والحياة المادية أساسها.
ويجدر الإشارة أن الكاتب الإنجليزي نيل جيمان (1960) هو بالأساس كاتب روايات هزلية وكتب مصوَّرة، وإن كانت جميعها تقريبًا تدور في فلك الأساطير. ولقد وجد الكثيرون أنه بلغ مقدارًا كبيرًا من الجرأة لكي ينتقد مجتمعًا هو بالأساس لا ينتمي له، لكنه فيما يبدو بنى دارة نقده من خلال اصطدامه بالحضارة الأميركية كزائر وليس الاشتباك معها، مما منحه الفرصة لأن ينتقدها من موقع قصيّْ يتيح له رؤية بانورامية لهذا المجتمع، فانتقده بحيادية. ولربما كان ذلك سببًا لنجاح رواية “آلهة أميركية” ولحصدها للعديد من الجوائز العالمية، وكذلك لترجمتها للعديد من اللغات بعد أن لاقت نجاحا جماهيريا عالميا، فالطابع الهزلي والقدرة على حشد آلهة أساطير العالم القديم في كتاب واحد زادت من مقدار المتعة لدى القارئ وكذلك أثارت ذائقته لاستكشاف المزيد عن تلك الآلهة محل الاشتباك.
وتعمد رواية “آلهة أميركية” إلى الغوص في أسباب صراع آلهة العالم القديم مع الآلهة المعاصرة عبر تصوير مجتمع هش يدّعي الترابط والتماسُك. ولهذا، قام جيمان بتحطيم محل فخر المجتمع الأميركي، ألا وهي الأسرة الأميركية ذات المبادئ السامية، من خلال إلقاء الضوء على بطل الرواية “شادو”، والذي يعنى اسمه “ظلّ”، الزوج المُحِب الذي يعشق زوجته ويحترم رب عمله الذي يحفظ له وظيفته بالرغم من دخوله السجن لمدة ثلاث سنوات بعد ضلوعه في حادث سطو.
لكن قبيل الخروج من السجن بأيام ينهار عالمه المثالي عندما يعلم بوفاة زوجته في حادث سيارة كانت فيها برفقة رب عمله، والتي كانت حينها تقيم معه علاقة آثمة، مما قتلها وقتله. لكن عشق الزوج لها يجعله يتغاضى عن الأمر. وبتلك الاستهلالة يحاول جيمان الذي يستخدم أسماء وظيفية لإبراز نقده للمجتمع الأميركي أن يوضِّح أن الزوج الخانع الذي يودّ أن يتوارى في الظلّ يستشري أيضًا الفساد في روحه؛ فلقد ارتكب جريمة سرقة بالإكراه عوقب على إثرها ودخل السجن.
في طريق الزوج للجنازة يقابل رجلًا غامضًا ومخادعًا يدعى “وينسداي” يعرض عليه العمل لديه كحارس شخصي. ومن خلال رب عمله الجديد الذي يكشف له أنه تجسيد للإله العظيم “أودين”، علمًا أن “وينسداي” هو اسم آخر لإله الشمال، يدخل “شادو” بؤرة الصراع الخفي بين الآلهة القديمة والآلهة الحديثة، وكلاهما يتجسَّد في شكل آدمي. ولقد لخص ذاك الصراع “فتى التكنولوجيا” الذي هو في صراع دائم مع “وينسداي” كبير الآلهة، وبالتالي مع الآلهة الأخرى الأقل قوَّة، بقوله: “أخبره (يقصد السيد وينسداي) أننا أعدنا برمجة الواقع. أخبره أن اللغة باتت فيروسًا والعقيدة نظام تشغيل، وأن الصلوات مجرَّد رسائل غير مرغوب فيها. أخبره بذلك وإلا قتلتك” (ص 180-181). وتيرة التقدُّم المتسارعة تقضي على الجانب الديني لدى البشر.
رواية “آلهة أميركية” هي استعارة ساخرة لهيمنة طغيان المادة على المجتمع الأميركي، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى فساد المجتمع الأميركي بوجه عام. وأكبر دليل على هذا هو أن أوَّل لقاء لـ”شادو” بعالم الآلهة بدأ بمقابلة العفريت “ماد سويني” (أي سويني المجنون)، وهو عفريت خفيف الظل وقادر على تنفيذ خدع سحرية حقيقية. أمَّا مساعدة الآلهة لـ”شادو” بمعجزاتها الخارقة لم تكن ذات نفع، فعندما منحته الآلهة القدرة على إحياء زوجته “لورا” بعد موتها، تحوَّلت الزوجة إلى زومبي قتل بعض الأبرياء بدم بارد، وكان ذاك هو نفس شعورها عندما قامت بخيانة زوجها.
ومن الجلي أن نيل جيمان يؤكِّد أن جميع الآلهة طالهم الانغماس في الفساد، ولا يستثني من ذلك أيِّ منهم؛ فبالرغم من أحاديث الآلهة المطوَّلة المفعمة بالنصح والإرشاد التي تساعد كلٍ منهم أن يقدِّم نفسه بأنه أفضل من الآلهة الأخرى؛ من أجل استقطاب المزيد لعبادتهم، لكنها أحاديث مملة على شاكلة الفساد الذي يشتشري بهم؛ فمثلًا “فتى التكنولوجيا” التجسيد البشري لإله التكنوجيا، يكذب ويخون، وكذلك هو الحال مع “وينسداي” النصَّاب المخادع ذو العلاقات النسائية المتعددة. والسبب في هذا الفساد هو التواجود على أرض الولايات المتحدة، مما يدفع “شادو” ليؤكِّد: “هذا البلد يُفسد الآلهة” (ص 478)، وعزى ذلك لأنه لا يوجد على أرضها من هو “أميركيًا… أصله أميركي” (ص 96). عندما يتوقَّف البشر عن عبادة الآلهة تغزوهم صفات آدمية فاسدة، وتلك ظاهرة أميركية خالصة.
رواية “آلهة أميركية” استعارة كاركاتيرية شخصياتها غير نابضة بالحياة، بما في ذلك الشخصية الرئيسية “شادو”، الذي تتحوَّل رحلته إلى ملحمة معاصرة. لكن تدب الحياة في شخصيته في نهاية الأمر عندما يقابل الإله “أودين” الحقيقي، بيد أن حينها يتحوَّل إلى آدمي بصفات العفريت “ماد سويني” المخادع خفيف الظل.