هل الوصاية حاجة عربية دائمة؟

كشفت الثورات المُتعثرة في العالم العربي النقاب عن واقع شديد التخلف، واقع لم يكن يتصوره أكثر المُحللين تشاؤماً. كما كشفت في الوقت ذاته عن طبيعة الأزمات التي تُعاني منها الشعوب العربية. وهي أزمات بنيوية تشمل كل نواحي الحياة ، بدءا بالاقتصاد والسياسة وانتهاء بالدين والثقافة. وقد تجلّى المأزق الرئيسي لهذه الشعوب بعد انفجار كياناتها من الداخل، بضعف القوى المدنية التي يُعوّل عليها في بناء دولة القانون والمؤسسات، مع العلم ان صراع الإسلام المُعتدل مع الأنظمة العسكرية أنعش الإسلام التكفيري المُتمثل بتنظيم «داعش» وأشباهه.

إن العقم في إنتاج ثقافة مدنية والامتناع عن إنشاء أحزاب سياسية من خارج الطاقم الديني أو المؤسسات العسكرية له علاقة بآليات إدارة السلطة في العالم العربي. فمن المعروف ان أحزاب السلطة تميّزت دائما بارتباطها الوثيق بأجهزة الاستخبارات ومؤسسات الجيش التي شكّلت على الدوام المطابخ السرية للأنظمة، وبالتالي، فهي لم تكن في يوم من الأيام أحزابا مُستقلة أو مدنية بالمعنى المُتعارف عليه. أما الأحزاب المدنية «الصغيرة» التي التحقت بالأحزاب الحاكمة في إطار جبهات وطنية أو قومية، فقد بقيت معدومة التأثير والفاعلية.

في المقابل، اضطرت الأنظمة العربية للتعايش مع حركات وتيارات دينية مختلفة كانت قد ملأت فراغ السياسة الممنوعة في أرجاء الوطن العربي كافة. منها حركات كانت تعمل في المساجد والجامعات، وأخرى كانت تعمل في السجون أو تحت الأرض (أو في أي مكان من أماكن التجمع التي لم تستطع السلطة إغلاقها بالمُطلق).

ومع صعود التيارات الإسلامية المُتشددة («القاعدة» وأخواتها)، وظهور نظامين إسلاميين في إيران والسودان وحزب إسلامي حاكم في تركيا، قويت شوكة الإسلام السياسي في العالم العربي، الى أن شكل هذا التيار، بمعتدليه ومُتطرفيه، البديل الوحيد لأنظمة الاستبداد.

لم تُتح أي فرصة حقيقية لقيام أحزاب مدنية مُستقلة، فبقيت السياسة من اختصاص الأحزاب الحاكمة وحدها، فيما تشكّلت المعارضات غير المنظورة من الحركات الدينية التي حوّلت المساجد الى غرف عمليات لنشاطاتها المحظورة. وكما يحصل داخل الحركات والمنظمات السرية، تحوّلت الحركات الدينية الى عالم تحتي وساحة خلفية جاذبة لأجهزة الاستخبارات العربية والدولية كافة.

وقد راوحت العلاقة بين النظام العربي والحركات الإسلامية قبل الثورات بين مدٍ وجزر ووئام وخصام، الى ان بلغ هذا النظام ذروة عجزه وفساده وانحطاطه السياسي والأخلاقي الذي أفضى الى قيام ثورات شعبية ضده. لكن ما إن انتهى مفعول «الموجة الثورية السلمية» حتى خلت الساحة على امتداد العالم العربي من القوى المدنية التي لم تحظ بفرصة كافية لتنظيم صفوفها في أحزاب وتيارات سياسية.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ما هي الأسباب العميقة التي منعت القوى المدنية من النمو في مُجتمعات باتت بأمس الحاجة الى اللحاق بركب الحضارة والتطور كما فعلت الشعوب الأخرى؟

يحيلنا هذا السؤال الى البحث في عوامل فشل الثورات (التي أطلقتها في البدء قوى مدنية) في التقدم نحو الأمام بعدما تمّ إسقاط رؤوس بعض الأنظمة (مصر وتونس وليبيا واليمن) وبعدما تم اختبار بعضها الآخر (سوريا والبحرين) وبعدما تعرّض بعضها الثالث الى التفسّخ من الداخل والخارج (العراق ولبنان) قبل أن تتحوّل الثورات بالإجمال الى فوضى وحروب أهلية تُشارك فيها قوى إقليمية ودولية. هذه العوامل يُمكن تلخيصها في ثلاثة.

الأول يتمثل في عامل التخلف الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي الذي تتحمل مسؤوليته الأنظمة السياسية والمؤسسات الدينية المُنقسمة على ذاتها والرافضة للإصلاح. كما يتحمل مسؤوليته الى هذا الحد أو ذاك ضعف استثمارات المال العربي (خصوصا النفطي) في البلاد العربية، ما حرم عشرات الملايين من العرب من فرص التعليم والعمل والسكن والترقي الاجتماعي، وبالتالي التأهل لممارسة الحق في حرية التعبير والمُشاركة في الحياة العامة. أما مسؤولية الغرب فتكمن في أنه فعل ـ ولا يزال ـ ما تقتضيه مصالحه الاقتصادية والأمنية، فيما قام الحكام العرب بما يلزم لإبقاء شعوبهم رهائن في سجون الحاجة الى لقمة العيش والأمان الشخصي والاحترام اللائق بالإنسان في حدوده الدنيا، أو حتى بالحيوان الذي بات يتمتع في مُجتمعات كثيرة بحقوق ما زال المواطن العربي محروما منها.

العامل الثاني تمثل في عسكرة الأنظمة العربية بحيث باتت الطبقة السياسية الحاكمة تتخرّج من الثكنات ومعامل الاستخبارات بدلا من الجامعات وساحات المجتمع الأهلي والمدني. حدث هذا الأمر في الجمهوريات العربية المُستقلة حديثا، في الوقت الذي بقيت فيه المحميات الملكية في غنى عن عسكرة السياسة أو استلهام الشعارات الوطنية لأنها كانت تتردى في غيبوبة طويلة تُشبه ركود المُستنقعات، فبقيت مُجتمعاتها مُستلبة ومشلولة، أي عاجزة عن الحِراك الذي يُثبت أنها حيّة.

لقد أدت ظاهرة العسكرة السياسية الى تحكّم أجهزة الأمن والاستخبارات بمفاصل الحياة اليومية للمواطنين الذين تعرّضوا للإذلال المعنوي والجسدي على أيدي رجال الأمن ومُخبري السلطة. كما أدت الى تشكّل طبقة انتهازية من حاشية عائلية ورجال أعمال استغلوا قربهم من الرأس الحاكم ليُمارسوا أعمال البلطجة الاقتصادية. ولم يكن الفساد سوى مظهر من مظاهر الاستبداد المُغلّف بشعارات ديموقراطية في كنف سلطة عُليا لا تحكم إلا بالأوامر.

العامل الثالث تمثل في التطرف الديني الذي نجم عن تشكيل أحزاب وحركات إسلامية مُتطرفة دخلت معترك العمل السياسي في مجتمعات مُتخلفة محكومة بتحولات ومخاضات عسيرة، وهو ما يُعادل عسكرة السياسة في رهنه المجتمعات العربية لقوى شعبية مُتراصّة ومُنظمة كالجيوش. فمن يستطيع مُنافسة الحركات الدينية سوى المؤسسات العسكرية؟ علما ان حكم الجيش يمتاز عن حكم الإسلام المُتطرف بأنه لا يؤدي الى تمزيق المجتمعات على أساس ديني ومذهبي، لأنه ببساطة يقمعها جميعها بالتساوي ويُصادر حريتها وفقا لأحكام قوانين الطوارئ التي قد تمتد لسنوات طويلة.

ان الفكر الديني المُتشدد لا يخضع لشروط الحرية والديموقراطية إلا مُضطرا وبصورة مؤقتة. خير دليل على ذلك تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر وتجربة حزب «العدالة والتنمية» في تركيا الذي بات يجنح نحو التسلط والاستئثار بالسلطة والابتعاد عن مقولة «الإسلام المُعتدل». ولا عجب في ذلك لأن هذه القوى كما أسلفنا لا مُنافس لها في ساحاتها المحلية إلا مؤسسات الجيش. أما الحركات التكفيرية فهي تنظيمات عدمية تقوم على الإلغاء التام للخصم الى حد تصفيته جسديا، وهي الأكثر عُرضة للتلاعب بها من قبل أطراف خارجية. وتُمثل هذه التنظيمات الوجه القبيح المُستتر لبعض القوى الإقليمية والدولية التي تُوظف جرائمها الوحشية في خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية. ولا يقتصر ضرر هذه الجماعات على ترويع الأقليات وتهجيرها من أرضها، بل يتعدى ذلك الى القضاء على أي إمكانية للعودة الى الخيارات المدنية في بناء الدول، سواءٌ في المشرق العربي أو في مغربه.

لهذه الأسباب لا تلوح في أفق العالم العربي اليوم مواعيد قريبة للخلاص من الواقع المُفزع الذي وصلت إليه الأمور. فهذا الانسداد في أفق التسويات والحلول بدّل أولويات الناس ليُصبح «الأمان» الأولوية الأولى لدى الجميع بعدما تحوّلت الصراعات السياسية ـ الدينية الى حروب إبادة.

ومع احتدام أوار تلك الصراعات، بدأ ينفرط شيئا فشيئا عقد الولاءات الوطنية لتحل محلها الولاءات القائمة على الانتماء الديني. معنى ذلك ان كل مشاريع الإصلاح، بما فيها الإصلاح الديني والسياسي، قد وُضعت على الرفّ بانتظار ما ستُسفر عنه الحرب الطويلة على الإرهاب. هذه الحرب ستضع البلاد العربية من جديد تحت الوصاية الدولية باسم الحفاظ على الأمن والاستقرار وباسم الحرص على تأهيل العرب لدخول عصر الإصلاحات من بابها الديموقراطي. ومعنى ذلك أيضا ان الوصاية هي الثمن الباهظ الذي سيستمر العالم العربي في دفعه لقاء عجزه عن إقامة مؤسسات حكم عصرية يتوافر فيها الحد الأدنى من الشروط القانونية والدستورية.

لقد أضاع العرب فرصتهم التاريخية للقيام بإصلاحات داخلية خلال العقدين المُنصرمين. هذا التفريط ـ الذي يرقى الى مستوى الخيانة ـ أدى الى تراكم الملفات الإصلاحية خارج أجندات الأنظمة التي انصبّ اهتمامها على توطيد دعائم حكمها، الى أن أتت الثورات لتكشف مدى الاهتراء الذي أصاب البُنى العربية الحاكمة، ومدى الانحطاط الذي وصلت إليه الطبقة السياسية العربية، ومدى الإحباط العاطفي والمعنوي الذي أصاب الإنسان العربي.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى