هل تتحقق نبوءة هينتنغتون

وضرب الإرهاب فرنسا يوم الاعتداء على صحيفة “شارلي إيبدو”. وهذا الحادي عشر من سبتمبر الفرنسي لا يأتي منفصلا عن جملة أحداث تهز القارة القديمة، مرتبطة بتداعيات صعود الوجود الإسلامي في بلدان مثل ألمانيا والسويد. وفي وقت يحتدم فيه ما يسمى بالحرب العالمية ضد الإرهاب، ويتعاظم فيه تأثير البعد الديني في الصراعات، فإن شمول العنف الديني والإثني أوروبا لا يعد إشارة إيجابية.

إزاء لوحة غير مسبوقة من المشهد الأوروبي المتأزم اقتصاديا منذ 2008، والذي تنعكس عليه ارتدادات ظاهرة التطرف والتخويف من أسلمة أوروبا، يعتبر الحدث الفرنسي منعطفا يمكن أن يزيد من القطيعة بين الثقافات والأديان، وكأن نظرية “صدام الحضارات” لصاحبها صموئيل هينتنغتون تأخذ طريقها للتطبيق بعد ثماني سنوات ونيف على غيابه.

من دون شك يمكن تفهم رفض إساءة صحيفة ساخرة إلى المقدسات أو غيرها، لكن الرد على الكتاب يكون بالكتاب، وعلى الكلمة بالكلمة، وهذا هو المسار الصحيح. ومن يقرأ تاريخ الثورة الفرنسية مع الكنيسة يعلم أسباب التسامح مع حرية انتقاد الأديان. ومهما كانت المقاربات مختلفة بين بيئة وأخرى حول احترام المقدس، لكن كل تبرير للإرهاب العبثي والمجرم غير مقبول ومسوغ. أما انبراء بعض المثقفين العرب للربط بين الإرهاب وعدم المعاملة الجيدة لمن هم من أصول مغاربية مهاجرة أو لموجة الإسلاموفوبيا، فذلك ينم عن عدم إحاطة بالمشهد الفرنسي وانعكاسات الأزمة الاقتصادية على الاندماج والتشغيل. أما بالنسبة إلى حرية العبادة والتعايش بين الأديان والجماعات تحت سقف الدولة، فإن النموذج الفرنسي يعدّ مثاليا بالقياس مع كثير من البلدان.

كانت صدفة أن يأتي الهجوم على مقر “تشارلي إيبدو” في اليوم عينه لصدور رواية ميشال هوليبيك الجديدة “استسلام” أو “سوميسيون” التي تصور سيناريو فوز مرشح مسلم في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022، والتي تندرج بشكل أو بآخر في سياق موجة تخويف أو رهاب إسلام تجتاح أوروبا (مظاهرات في ألمانيا، وهجمات على مساجد في السويد، واعتداءات على محجبات…).

وقبل “جنون هوليبيك” (حسب وصف صحيفة لوموند الرصينة) الذي قرر تعليق حملة الترويج لكتابه حتى لا يؤجج توترات ما بعد العمل الإرهابي، كان “الانتحار الفرنسي” للكاتب والصحفي المثير للجدل إريك زيمور قد سجل أعلى رقم في المبيعات، ووصل الأمر بزيمور إلى التلميح في مقابلة مع صحيفة إيطالية إلى ضرورة ترحيل المسلمين من فرنسا، ولقي ذلك استنكارا واسعا في فرنسا من وزير الداخلية ومجمل الطبقة السياسية، وقررت قناة تلفزيونية بارزة وقف التعامل مع هذا الشخص.

وكان لافتا أنه قبل يومين من حادث “شارلي إيبدو” كان الرئيس فرنسوا هولاند يعترف بوجود أزمة هوية في فرنسا (عدم تسليم البعض بتحولها إلى بلد متعدد الثقافات دون نكران الجذور والعمق الحضاري، وعدم شعور البعض بأنهم فرنسيون أو تفضليهم انتماء دينيا على حساب الانتماء الوطني) وبعد الحادثة الأليمة تكررت عبارة الوحدة الوطنية الفرنسية وكأنها العلاج السحري لمنع اعتبار بعض المتشددين القوميين اليمينيين للمسلم الفرنسي بأنه العدو الداخلي وتحميله تبعات أعمال إرهابية أو صورة نمطية تخلط الإرهاب بالإسلام أو العرب.

في المقابل لا تسهم بعض الأدبيات الصادرة من داخل العالم الإسلامي والتي تركز على قرب أسلمة أوروبا والعالم، والمعطوفة على تحريض الجماعات الجهادية المتطرفة إلا في توسيع الفجوة والخشية من القطيعة في عود على بدء وعلى الأقل إلى عشرينات القرن الماضي وقول الكاتب روديارد كبلينغ “الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا أبدا”.

ما بين زمن كبلينغ وزمن هينتنغتون وداعش لم تردم الفجوات، ولم ينجح حوار الأديان أو العولمة والقرية الكونية في الحد من استمرار الاستناد إلى العصبيات والانتماءات الرافضة للآخر، وهذا التوصيف لا يقتصر على الشرق الأوسط الملتهب، بل يطال ديانات واتجاهات وقوميات أخرى في تجاذب دائم بين شمولية كونية تفرضها المبادلات الاقتصادية والثقافية، وبين انحسار أو انحدار نحو الانتماء الأضيق. يسري ذلك وفق نزعة دفاعية من قبل المغيبين عن مكاسب العولمة أو وفق اتجاه انعزالي تحت عنوان الأصالة، أو وفق طموح لتحطيم نظام عالمي قائم، وبلورة بدائل كما يتصور دعاة الجهاد الكوني باسم قراءة معينة للدين.

في هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن مركز بيو ريسيرتش الدولي للأبحاث الاجتماعية (Pew Research Center) إلى ازدياد عدد الأوروبيين المتخوفين من الإسلام والمسلمين في السنوات الأربع الأخيرة بنسبة 15 بالمئة. ويفيد التقرير أن 52 بالمئة من الأسبان و38 بالمئة من الفرنسيين و50 بالمئة من الألمان أعربوا عن موقفهم السلبي من المسلمين، وليست العبرة في الأرقام في حد ذاتها. فمن الأدلة على تصاعد معاداة الإسلام، المبادرات واللوائح التشريعية التي تتقدم بها السلطات في بعض دول الاتحاد الأوروبي، والعديد من وقائع الممارسات الاجتماعية والحياة العامة. وتتصاعد هذه الاتجاهات المقلقة على خلفية الزيادة المطّردة في عدد السكان المسلمين في الدول الأوروبية، حيث تفيد بعض التوقعات أن نسبة المسلمين في أوروبا يمكن أن ترتفع في 2030 من 3 أو 4 بالمئة، كما هو الحال الآن، إلى ما أكثر من 10 بالمئة.

لا شكّ أنه سيكون لهجوم 7 يناير عواقب وخيمة في فرنسا، إذ سيزيد من تفاقم الإسلاموفوبيا وتشويه صورة الإسلام والمسلمين، بالإضافة إلى مخاطر تنامي قوة اليمين المتطرف القومي الذي يصل معدل نسبة تأييده إلى 20 بالمئة في الكثير من الدول الأوروبية.

ولكن ربما حان الوقت لإطلاق حوار معمّق حول “الحرب على الإرهاب” التي أعادت بعض الدول الأوروبية والمجتمع الدولي إطلاقها إثر توسّع تنظيم الدولة الإسلامية. لا بد من مراجعة غربية نقدية لأسلوب ومآلات الحرب ضد الإرهاب، ودراسة جدوى التدخل العسكري ومساراته مع عدم نسيان المشاكل السياسية وحل القضايا المزمنة التي يمكن أن تشكل حاضنة تبرير فكرية للتطرف.

إن أفضل رد على الإرهاب والتطرف والقطيعة الحضارية يتمثل في المزيد من الديمقراطية والاعتراف بالآخر والتنوع، كما لا بد من تجديد الخطاب الديني المسلم لتصحيح النظرة المشوهة ومحاصرة خطاب التكفير ورفض الآخر.

أستاذ العلوم السياسية، المعهد الدولي الجغرافيا السياسية ـ باريس

صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى