هل حكم زعماء العصبيات أرحم من حكم الجيش؟ (احمد بعلبكي)

 

احمد بعلبكي

مرت ستة عقود ونيف على حصول أول صراع أهلي مسلح شهده الكيان اللبناني بعد استقلاله، تواجهت فيه زعامات الطوائف ونخبها الموالية العام 1958. صراع عادت بعده هذه الزعامات، بفعل الضرورة والاضطرار، إلى الثوابت الوجودية والوظيفية لقيام الكيان، لتُجدّد التوافق على تحاصص الحكم ضمن صيغة برلمانية. وهو توافق يقوم، هو أيضاً، على التقاطع الظرفي لمواقف ولمصالح الأنظمة العربية المتنافرة والقوى الدولية المتواجهة من خلفها في المنطقة.
على الرغم من مرور ستة عقود ونيف من التحولات السياسية ـ الإيديولوجية والاقتصادية داخل الأنظمة العربية، والمشرقية منها خاصة، وداخل إستراتيجيات القوى الدولية المؤثرة في المنطقة، إلاّ أن تأثيرات هذه التحولات جاءت متنافرة في لبنان. تراكمت سلبيات التأثيرات الإقليمية إلى حدود برّرت لزعامات الطوائف ولنخبها المستبعدة، في فئاتها المتوسطة خاصة، المراهنة على استثمار الميول الأولية للاصطفافات الطائفية لدى عوامها المهمشة. وهي اصطفافات يسهل تقبلها وإذعانها للخطابات التعبوية العصبوية، ولا سيما بعد تمكن الزعامات من احتكار الإعلام المتلفز. وقد ذهبت زعامات الطوائف، ولا سيما الإسلامية منها خاصة، إلى تحصين نفوذها والاندماج في محاور سياسية إقليمية ودولية توفر لها الدعم السياسي والإمداد الضروري للإنفاق على زبائنيتها وعلى أجهزتها الحزبية والمليشياوية متى اقتضى الأمر.
أن اندماجات تلك الزعامات في المحاور الإقليمية جاءت متوافقة مع التحولات السياسية والإيديولوجيات المتسارعة التي شهدها النظام العالمي منذ أواخر السبعينيات باتجاه الأحادية القطبية. وجاءت متزامنة مع تهافت الردع السوفياتي وتوسع مطامح الثورة الإسلامية الإيرانية في الاستقطاب الخارجي لوراثة مواقع هذا الردع الذي كان داعماً لصمود التيارات القومية واليسارية في البلاد العربية.
لقد أدت هذه الاندماجات المُشار إليها، ليس إلى ترسيخ نفوذ الكيانات الطائفية وحسب، بل وإلى فرض تبادل الاعترافات بين زعاماتها بولاياتهم المتوارثة. اعترافات تضمن تجدد تعدديتها التي لا تمنع توسع التطرف الإقصائي لبعضها البعض، كلما فرضت عليها المواجهات الإقليمية عداوات متبادلة تنتهي إلى التوافق المرعي من الخارج.

ارتدادات

مما لا شك فيه أن ظروف توسع تأثيرات المد الإصلاحي العروبي الناصري، مدعوماً بتوسع تأثيرات الدعم السوفياتي خلال الربع الثالث من القرن العشرين، كانت لها مجتمعة ارتدادات على الساحة اللبنانية برزت في شكل اصطفافات طائفية تتواجه فيها شعارات الغبن الاجتماعي الاسلامي وشعارات الخوف السياسي المسيحي. وقد نجح زعماء الغالبية المسلمة المتواطئون على غبنها في استثمار هذا الغبن الاقتصادي – الاجتماعي المناطقي، وتحويله من مسألة داخلية أولا، الى مسألة خارجية، زعموا انها فُرضت على المسلمين بسبب ولائهم القومي والديني للنهج التحرري الناصري. فبرروا بذلك استقواءهم بالتحالف معه ودعواتهم الى مناصرته ولو ادى ذلك الى مواجهة مع ميول في الاوساط المسيحية تحرص غالبية زعاماتها على ترسيخ واستثمار خوفها التاريخي. انه الخوف الذي بدأ مع تحيّز السلطات العثمانية ضدها وتواصل تأكيده مع توسع الاستقطاب العروبي الناصري وتأثيره في مساندة الحركات القومية اليسارية في الاوساط الاسلامية في مواجهة نفوذ الدول الاوروبية وتعهداتها التاريخية منذ العصر الكولونيالي بحماية المسيحيين في المشرق. وبهذا تكون الزعامات المسيحية التقليدية بقيادة الكنيسة المارونية قد جعلت هي ايضاً من مسألة الخوف التاريخي المتكونة داخلياً مسألة خارجية تستثمرها في الاستقواء بتحالفات غربية كلما اقتضت الحاجة.
وهكذا تكون الزعامات التقليدية اجمالا، المسيحية النافذة والمسلمة المتواطئة، قد تشابهتا في ازاحة مسألتي الخوف والغبن من نصاب تشكلهما التاريخي الداخلي الى نصاب تحالفاتها الخارجية معتمدين في ذلك نهج تزييف الوعي الموضوعي لدى عوام كل منهما، وذلك تبريرا لاستحضار الحلول الشرسة والتوتير المتبادل الذي يظل يتواصل عادة بانتظار توافق الحلفاء الخارجيين على الفصل وإعادة الوصل السياسي بين الزعامتين.

انعطافات

لم يصمد اللغو الأخلاقي في الميثاق الإيديولوجي في ظل ظروف الانعطاف السياسي الدولي والإقليمي الذي تبلور منذ منتصف الخمسينيات بعد الانتصار الناصري في حرب السويس وبعد حصول التوازن الجيوإستراتيجي بين الأميركيين والسوفيات في تعاملهما مع حلفائهما في المشرق، وبعد بروز الحضور الديغولي المعترض على التورط الغربي في ضرب حركات التحرر العربية وتعويق حصول الفلسطينيين على حق تقرير المصير. وقد انعكست هذه التغيرات الدولية والإقليمية مجتمعة على الساحة السياسية في لبنان مُتيحة المجال لتوسع الميول إلى فهم المسألتين المُشار إليهما أعلاه في البنية السياسية اللبنانية كمسألتين داخليتين أولاً، وتبدأ معالجتهما أولاً من أولوية التحديث السياسي الإداري والتوازن التنموي المناطقي. وفي مواجهة هذه الأولوية تكون معالجة مسألة «الغبن الإسلامي» قد بدأ طرحها بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات، طرحاً يتلازم بالضرورة مع توفير المناخات الملائمة للإصلاح السياسي ومعالجة مسألة الخوف «المسيحي».
ولكن ظروف العولمة النيوليبرالية والإقليمية التي تسارعت بموازاة ظروف الحرب الأهلية الخارجية اثرت مجتمعة في معاكسة مناخات الاصلاح وشجعت على تضييق نطاقات الاندماجات السياسية إلى حدود الانتماءات المذهبية بعيداً عن المسائل المشتركة بينها ولو داخل المنطقة اللبنانية الواحدة. وشجعت على تحصين كيانات المذاهب الإسلامية من خلال ثقافات تجذير شعائرية يتبارى الزعماء داخل كل جماعة مذهبية في تحديث ترويجها وتحصينها بتحالفات مع قوى خارجية تتصارع على الأراضي اللبنانية، غير آبهة بسيادة الدولة وبالإمكانيات البشرية والمادية لاستمرار العيش في كيان دستوري تنتظم فيه وحدة مكوناته.
إنها العولمة التي توسِّع الأسواق باسم الحداثة وتضيق الهويات باسم الأصالة لتقود الحكام، في المجتمعات الفقيرة والصغيرة خاصة كلبنان، إلى اللجوء لتعطيل آليات «برلمانيتها الليبرالية» كلما اضطر الحكام للتنازل عن مبادﺉ السـيادة الوطنية، وكلما تمكنوا بفعل أجهزتهم الزبائنية من قطع الطريق أمام بروز زعامات وقيادات رائدة يُشهد لها بتفوق قدراتها على التحكم بضبط وتوجيه الميول الغرائزية لعوام طوائفها، وعلى انتزاع المبادرة والمفاوضة لوقف تورط الزعماء الآخرين ونخبهم المتورطين في المعارك الداخلية وفي تهديد وحدة العيش والأمن والجيش في الكيان اللبناني المتعدد التحسسات.
إن اغتيال الحضور المميز للزعيم كمال جنبلاط العنيد بديموقراطيته، والتهجير المميز لريمون إده العنيد في ليبراليته، أديا من ضمن ما اديا، إلى عودة الزعماء التقليديين، النافذين منهم والمتورطين، لاستغلال مبدأ التحاصص في تعيين القيادات في الجيش وقوى الأمن والقضاء، وقطع الطرق على بروز قادة عسكريين ممن يفكرون بنهج اللواء فؤاد شهاب في انقاذ الكيان من مخاطر التوكيلات الخارجية للزعماء الطائفيين في السياسة اللبنانية، والدفع باتجاه الإصلاح السياسي والإداري وفرض سيادة الدولة. هذا القائد الذي أصرّ على احترام تفاصيل رمزية سيادة الدولة في اختيار موقع خيمة المفاوضة مع الرئيس الأقوى في العالم العربي خلال الستينيات من القرن الماضي على الحدود السورية اللبنانية. وتوصل بفعل رؤيته التحديثية والتنموية المتوازنة اجتماعياً ومناطقياً، وبفضل الكفاءات العالية لبعثة «ايرفد» الدراسية الفرنسية، الى اعتماد اول خطة انمائية تضمينية ثلاثية لم يستطع الزعماء التقليديون تقبلها، فانقلبوا باسم الديموقراطية وتحرير البلاد من حكم مخابرات الجيش على نهجه الإصلاحي، وتم وقف العمل بخطة «ايرفد» الشهابية بمرسوم، وذلك ليس إلا لأن النهج التخطيطي يتعارض مع النهج الزبائني للادارة الحكومية.

قيادات

لقد كان مثل هذا التفكير في الإصلاح السياسي الاجتماعي، الذي تبلور بفضل رؤى ودراسات موثوقة علمياً قامت بها بعثة ايرفد الفرنسية، المشار اليها اعلاه والتي سنعرض لأهميتها لاحقا، بحاجة إلى سلطة سياسية متبصرة ومؤسسات إدارية قابلة للتطور تضمن اشتغالها وتصديها لمعوقات الزعامات الطائفية التقليدية داخل نفوذها الأهلي وفي الإدارة الحكومية. وهذا ما شكل ظروفاً ملائمة لبروز الجيش كمؤسسة وحيدة قادرة على وضع الحدود لهذه المعوقات، وعلى تأمين المراقبة الصارمة لتنفيذ هذا الإصلاح السياسي ـ الاجتماعي الكبير. وقد توفرت لمثل هذا الدور الموضوعي للجيش كفاءة ذاتية لقيادته، وهي قيادة كان ما زال فيها الكثير ممن لا فضل للزعماء الطائفيين التقليديين في تعيينهم ورهنهم لخدمة مصالحهم الزبائنية. وجاء ت في طليعة هذه القيادة كفاءة استثنائية تمثلت باللواء فؤاد شهاب الذي تحمل هذه المسؤولية الحرجة مستفيداً من توافق اميركي ديغولي ناصري على وقف المواجهات الاهلية المسلحة في لبنان.
لقد جاءت هذه القيادة الشهابية مصممة على فرض الاصلاح السياسي والاداري ومثمّرة لهذا الدعم الدولي النادر، فبادرت منذ اشهر حكمها الاولى الى اطلاق اكبر ورشة إحصائية تشخيصية تخطيطية استُدعيت للقيام بها بعثة ايرفد الفرنسية المشهود عالمياً لقدراتها المتخصصة في هذا الميدان. وانتهت هذه البعثة بالتعاون مع ادارات لبنانية معنية في مجالي الإحصاء والتصميم او التخطيط، وبعد حوالي السنتين من الجهود التوثيقية والمقابلات واستثمار المعطيات، الى اصدار تقريرها الواقع في ثلاثة اجزاء تزخر بالمؤشرات العلمية حول «امكانيات وحاجات التنمية في لبنان». وقد انتجت مؤشرات ما زال الباحثون والمتنورون من السياسيين والاعلاميين يُذكّرون بمدلولاتها التحذيرية وعما تتجه اليه الاوضاع اللبنانية في ما لو استمرت على احوالها من التفاوتات المناطقية والاجتماعية. وقد لخص رئيس البعثة الأب لوبريه هذه التحذيرات (الجزء الثاني ص 148) بقوله: «ان لبنان يبدو، وأكثر من اي بلد آخر، انه يعاني من تخلع في قوامه الاقتصادي والبشري. وان هذه نقطة من نقاط الوهن في بنيته السكانية… وان مسيرة التفاعل الثقافي بين الجماعات اللبنانية عبر التعليم: لم تلبث ان ابرزت تفاوتا كبيرا في مستويات الحياة ولن تتأخر في التحضير لتمردات في المناطق او لتمردات لفئات اجتماعية قد تُؤدي بالبلاد الى الفوضى».
لقد وصلت البلاد الى مثل هذه التمردات المتوقعة، وبلغت الفوضى مستويات تتوافق الدول النافذة في العالم والخليج على رعايتها. انها الفوضى التي يتوافق الزعماء الطائفيون اليوم على حصر نيرانها وضحاياها بأفراد الجيش المجندين بسبب الفقر والبطالة ليفصلوا بين محاور انصارهم ومرتزقتهم. وليمنعوا ظهور اي ريادة شهابية في قيادة الجيش تفرض الانتقال بدورها من وضع المأجور المُبتز في كرامة موقعه الوظيفي الى وضع المنقذ للجيش وللطوائف من مرضى التسلط على عوامها. وهو في الواقع تسلط يُشرعنونه بالانتخابات الممولة وبشبهة الولاء الديني وحرية التطرف المقيت ليقولوا دائما، وبلا خجل، ان حكم زعماء العصبيات الطائفية وميليشياتهم ارحم من حكم الجيش ومخابراته.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى