افتتاحية الموقع

هل ستُبقي إسرائيل والقوى الكبرى على خارطة “سوريا الكبرى” كما نعرفها؟

ماهر عصام المملوك

بعد أكثر من قرن على اتفاقية سايكس-بيكو (1916)، التي شكلت الأساس لتقسيم بلاد الشام بين القوى الاستعمارية الغربية، يعود سؤال جوهري إلى الواجهة: هل ستبقى خارطة سوريا السياسية كما هي عليه الآن؟ أم أن المرحلة المقبلة، التي تتشكل ملامحها انطلاقًا من غزة في 7 أكتوبر 2023 مرورًا بالجنوب السوري في 2025، ستكرّس واقعًا جديدًا؟ سؤال يتداخل فيه العامل الإسرائيلي بالمشروع الإمبريالي الأوسع، القائم على توظيف التفوق العسكري والاقتصادي، من أجل فرض ترتيبات إقليمية تتناسب مع المصالح الغربية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط.

تُعد اتفاقية سايكس-بيكو لحظة تأسيسية في إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة، حيث تم تمزيق أوصال المشرق العربي بما يتوافق مع المصالح البريطانية والفرنسية آنذاك. ومع مرور الزمن، تكيّفت القوى العظمى بما فيها الولايات المتحدة لاحقًا مع هذا الواقع، بل عملت على إعادة إنتاجه بصيغ جديدة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

في هذا السياق، ظهرت مشاريع مثل “الشرق الأوسط الكبير”، و”الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحته كوندوليزا رايس عقب حرب تموز 2006، والذي ينطلق من فرضيات “الهندسة الجيوسياسية” من فوق، من خلال التدخل العسكري أو التحريض على النزاعات الداخلية (الطائفية والإثنية).

تمثل سوريا، تاريخيًا، خاصرة استراتيجية لإسرائيل. فمنذ عام 1948، تنظر إسرائيل إلى سوريا من زاويتين: تهديد جيو-أمني محتمل، وممر لسياسات التوازن الإقليمي. مع اندلاع الحرب السورية في 2011، تعاملت إسرائيل مع الأزمة من منطلق المصلحة: إضعاف الدولة السورية، دون السماح بانهيارها الكامل، وتجنب بروز بديل أكثر عدائية (كجماعات إسلامية متطرفة).

غير أن ما تغير اليوم هو دخول مشروع “التقسيم الناعم” إلى مراحل أكثر علانية. إذ تشهد الساحة السورية نوعًا من التحلّل السيادي التدريجي:

  • الشمال الشرقي تحت نفوذ أميركي-كردي.
  • الشمال الغربي تحت سيطرة تركية وفصائل معارضة.
  • الجنوب يشهد اضطرابًا متصاعدًا في درعا والسويداء، يهدد وحدة الدولة.
  • مناطق الوسط والساحل تحت سيطرة الدولة السورية مع وجود روسي وإيراني بارز.

هذا الانقسام الواقع، يعكس ما بات يُعرف بـ”سوريا المفيدة”، ما يطرح تساؤلات جدية حول النوايا الإسرائيلية والغربية حيال مستقبل سوريا كوحدة جغرافية-سياسية.

بعد اندلاع حرب 7 أكتوبر، تصاعدت مؤشرات انتقال التوتر إلى جبهات أخرى. الجنوب السوري، منذ أوائل 2024 وحتى منتصف 2025، يشهد تصاعدًا لافتًا في العمليات الأمنية والاحتجاجات في محافظة السويداء ودرعا.

تُظهر التحركات الإسرائيلية، سواء من خلال القصف المتكرر على الأراضي السورية، أو من خلال التنسيق الاستخباراتي مع أطراف محلية في الجنوب، أن هناك رغبة في إعادة تشكيل الحزام الجنوبي لسوريا، بما يمنع أي تموضع استراتيجي لإيران أو “حزب الله” على الحدود مع الجولان المحتل.

التحركات هذه ليست منفصلة عن مشروع أوسع لإعادة ضبط التوازنات في جنوب الشام، بما يشمل الأردن وفلسطين، ويرتبط بممرات استراتيجية ومياه جوفية وحدود قبلية.

وتتحكم سوريا، جغرافيًا، بموقع مركزي بين ثلاث جبهات حيوية للسيطرة على الشرق الأوسط:

  • مضيق هرمز شرقًا، عبر الامتداد الإيراني – العراقي.
  •      باب المندب جنوبًا، من خلال التحالف الحوثي – الإيراني.
  • قناة السويس غربًا، عبر الضغط على مصر أو توظيف الفوضى في سيناء.
  • ومن خلف كل هذا، يتداخل الحضور الأميركي – الفرنسي – البريطاني، بغطاء الناتو، في موازاة ماتبقى من الوجود الروسي في طرطوس واللاذقية.

كما أن الاحتياطات النفطية والغازية، لا سيما في الشمال الشرقي السوري (الحسكة ودير الزور)، تُعد من أبرز دوافع الاهتمام الأميركي والغربي بهذه المنطقة، حيث تسيطر قوات “قسد” بدعم مباشر من الولايات المتحدة.

وتُعيد الحرب الأوكرانية منذ 2022، وانعكاساتها على العلاقات الدولية، إنتاج حالة من الاستقطاب العالمي. في ظل هذا السياق، أصبحت سوريا مسرحًا لتصفية حسابات القوى الكبرى:

  • روسيا حاولت ان تعزز وجودها في الساحل السوري كبديل عن منافذها الأوروبية ولكن سقوط نظام بشار الاسد قد افشل هذا المشروع وهذا المخطط للروس .
  • الصين، عبر مبادرة الحزام والطريق، بدأت تتلمس دورًا اقتصاديًا في المشرق.
  • الولايات المتحدة، تُصر على البقاء شرق الفرات، لا فقط لمكافحة “داعش”، بل لحماية مصالحها الاستراتيجية في موارد الطاقة والضغط على طهران.

أما إسرائيل، فتمثل ذراعًا متقدمة ضمن هذا التوازن، وتُستخدم كأداة تدخل مباشر أو غير مباشر لضبط المشهد، بما ينسجم مع الرؤية الأميركية للمنطقة.

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل عاقل ومدرك لخطورة وحساسية التوقيت والمرحلة هو :

هل نحن في واقع الأمر نقترب من إعادة رسم الخريطة الجديدة لسوريا الكبرى ؟

ما يجري في الجنوب السوري اليوم ليس منعزلًا عن مشروع أكبر لإعادة هندسة المنطقة سياسيًا واجتماعيًا. السيناريوهات المطروحة تشمل:

  • الفدرلة أو اللا مركزية الموسعة تحت مظلة “الحكم المحلي”، خاصة في الشرق والشمال.
  • دويلات طائفية أو إثنية مقنّعة، على أساس الأمر الواقع (كردية في الشمال الشرقي، درزية في الجنوب، سنية في إدلب).
  • منطقة عازلة جنوبية خاضعة لنفوذ إسرائيلي غير مباشر، بذريعة أمن الحدود.

ومع أن هذه السيناريوهات تصطدم بمعارضة الدولة السورية والداعمين الإقليميين فإن التآكل الداخلي، والتعب الشعبي، والانقسام المجتمعي، قد يفتح الباب أمام تكريس واقع جديد لا يعتمد تقسيمًا قانونيًا معلنًا، بل “تعايشًا وظيفيًا” لمناطق النفوذ المتعددة.

يبقى في الختام السؤال الذي يطرح نفسه وهو سؤال الدولة، وسؤال المصيرفي ضوء ما سبق، يبدو أن سوريا تواجه مرحلة مفصلية، قد تؤدي إلى تكريس “تفككها الناعم” ضمن صفقات غير معلنة، تُراعي موازين القوى بين الخارج والداخل.

هل تبقى الخارطة السورية على حالها؟

الجواب معلق بين ميزان القوة العسكري، والإرادة السياسية، والمصالح المتقاطعة بين إسرائيل، الولايات المتحدة، روسيا، وتركيا وبعض الدول الخليجية المؤثرة . لكن المؤكد أن الخريطة القديمة تُراجع اليوم بأدوات حديثة – أقلها، تحريك الجنوب، والأكثرها خطورة، لتحويل سوريا إلى مسرح دائم للصراعات دون سيادة موحدة.

وكما قال الشاعر طرفة بن العبد :

ستبدي لك الايام ماكنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويأتيك بالأخبار من لا تبع له بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد ….

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى