هل فهم الباحثون الغربيون تاريخ سيد قطب؟ (علي العميم)

الرياض: علي العميم

ملاحظات نقدية حول دراسة باحث أميركي عن أحد أبرز منظري الإخوان المسلمين

 كثيرة هي الكتابات التي تناولت التاريخ السياسي والفكري والاجتماعي لحركة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها، وكثير فيها الخطأ والصواب، لكن قليل من النقد يوجه لها، إثراء للجهد العلمي والنقدي، خصوصا أن حركات الإسلام السياسي، وأهمها هي حركة الإخوان المسلمين في مصر، مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
في السياق التالي أجزاء من مطالعة نقدية للكاتب السعودي علي العميم لإحدى الدراسات الغربية التي تناولت سيد قطب. والدراسة هي للباحث الأميركي من أصل بريطاني حامد ألجار*.
يسوّغ حامد ألجار إعادة ترجمة كتاب سيد قطب الشهيد: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» المنشور بالعربية سنة 1949، مجددا إلى الإنجليزية بأن ترجمة جون ب. هاردي له التي نشرت سنة 1953، من قبل المجلس الأميركي للجمعيات الثقافية American Council of Learned Societies  فيها عدد من الفقرات لا تنبئ بالحقيقة. وأنه وجد عند مقارنتها بالنص العربي أن هاردي لم يفهم النص الأصلي.
وعرض وهو يشرح ما فعله في إعادة الترجمة، للصعوبات التي واجهته في أداء المهمة التي ندب نفسه لإنجازها.
وبعد ذكره لهذه الصعوبات ذكر الفروقات التي وجدها ما بين الطبعة الأولى والطبعة الخامسة (1958) التي استند إليها في مطابقة ما ترجمه هاردي مع النص الأصلي. هذه الفروقات التي ذكرها هي:

1 – في الطبعة الأولى – طبعة هاردي كما يسميها – نقاش مسهب حول بابي «المصالح المرسلة» و«سد الذرائع» وحول الجفول الذي بدا على القوات العربية في مواجهة الوحشية والفظائع الصهيونية في أثناء حرب فلسطين الأولى. وفي الطبعة الخامسة هذا النقاش محذوف.

2 – في الطبعة الخامسة توصيات مفصلة عن تدريس التاريخ الإسلامي ودور الأدب في التعليم. وفي الطبعة الأولى لا يوجد شيء من هذا.

3 – الأحاديث التي تستخدم للاستدلال في مختلف المواضيع ليست متطابقة تماما في هاتين الطبعتين.

يقول عقب ذلك: «بناءً على المقارنة بين الطبعة الأولى والطبعة السابعة يشير وليم شيبرد إلى أن التغييرات تعكس اتجاه سيد قطب نحو ما سماه «الإسلام الجوهري الجذري». «هذا الاتجاه سببه التأثير الأيديولوجي لمولانا المودودي من ناحية والأحداث الآخذة في الظهور في مصر من ناحية أخرى».
ويرى حامد ألجار أن تحليل شيبرد قد يعكس المسافة التي قطعها سيد قطب بين الطبعة الأولى والطبعة السابعة، ولكن لا يمكن القول بذلك فيما يتعلق بالطبعة الخامسة، التي اضطر لاستخدامها بهدف تصحيح ترجمة هاردي.
ما تقدم هو نقل للفقرات الأخيرة من مقدمة حامد ألجار لكتاب:

(Social Justice in Islam by Sayyid Qutb–Translated by John B. Hardie, Translation Revised and Introduction By Hamid Algar)  الصادر سنة 2000. والكتاب عبارة عن ترجمة معدلة لترجمة جون ب. هاردي لكتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» المنشورة سنة 1953 بواشنطن، الذي يتضمن مقدمة تقع في سبع عشرة صفحة.

تقدم على الفقرات الأخيرة من المقدمة التي نقلتها، تقديم لمحة عن حياته الشخصية والتعليمية والوظيفية والأدبية والسياسية والدعوية منذ ولادته (1906) إلى سنة إعدامه (1966)، وعرض لعلاقة الإخوان المسلمين بالضباط الأحرار في مرحلتي التحالف والصراع. ووقوف عند كتابه: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» وكتابيه الآخرين: «في ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» وتلمس لتأثير الكتاب الأول في كتب إسلامية تالية هي:

«اشتراكية الإسلام» لمصطفى السباعي، «كيديلان سوسيال دلم إسلام» للمفكر الإندونيسي هامكا، «اقتصادنا» لرجل الدين والسياسة العراقي محمد باقر الصدر، وتأثيره في خطب عالم ديني ناشط سياسيا في إيران، هو أبو القاسم كاشاني.

لكن قبل ذلك من هو هذا الباحث الأميركي الذي اهتم بسيد قطب؟

حامد ألجار

أميل إلى أن حامد ألجار اسم غير معروف بالقدر الكافي في العالم العربي. فالمعرفة به تقتصر على بعض الأكاديميين العرب الذين لهم صلة أكاديمية ببعض الجامعات الأميركية وعلى بعض المثقفين العرب المهتمين بالثورة الإيرانية وآخرين من المتحمسين لها وأنصارها.
يعود السبب في ذلك إلى أنه لم يترجم من أعماله إلى العربية سوى نزر قليل، وأنه ليس له حضور في الصحافة والفضائيات العربية. في حدود اطلاعي لم يترجم من كتبه وأبحاثه سوى هذه الأبحاث:
الأول: «الإسلام كآيديولوجيا: فكر شريعتي» نشر في مجلة «المسلم المعاصر»، سنة 1983 عدد 34. ويظهر أنه مقدم ضمن ندوة، لأن المجلة ذيلته بنشر نقاشات حول البحث وردود صاحب البحث على المناقشين (شاما صديقي، إقبال عصرية، فريد شيال، يحيى الساعي، وحيد منير، والدكتور سلمان (!) لكن من دون بيانات عن اسم الندوة ومكانها واسم رئيس الجلسة الذي يشار إليه بهذا الاسم، وكان يشارك في النقاش، واسم مترجم البحث والنقاش.
الثاني، «الإمام الخميني 1902 – 1962، سنوات ما قبل الثورة»، وقد ترجم هذا البحث الذي هو عبارة عن سيرة شخصية للإمام الخميني وأبحاث أخرى، إلى العربية محروس سليمان سنة 2000، في كتاب عنوانه «الإسلام والسياسة والحركات الاجتماعية». وأساس هذا الكتاب أبحاث قدمت إلى مؤتمر جامعة كاليفورنيا الذي عقد في بيركلي سنة 1981. ونشر في كتاب بالإنجليزية سنة 1988، وقام بتحريره وكتابة مقدمتين له أدموند بيرك وإيما لابيدوس.
أما الثالث فهو «الوهابية.. بحث نقدي».
وقبل هذين البحثين، كان قد شارك بمحاضرة في الملتقى العاشر للفكر الإسلامي عنوانها «الجهاد: أبعاده الروحية والسياسية والاجتماعية في حياة الفرد والمجتمع» منشورة في كتاب صادر سنة 1976، عن الشؤون الدينية بالجزائر.
لذا أرى أنه من المستحسن قبل الشروع في نقاش مقدمته أن أعرّف القارئ العربي به تعريفا مختصرا.

حامد ألجار: أستاذ مرموق في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا – بيركلي. وقد بدأ التدريس في هذا القسم منذ منتصف ستينيات القرن الماضي. مختص بالآداب الفارسية والعربية والتركية. له كتب وأبحاث في التاريخ المعاصر لإيران وتركيا ودول البلقان وأفغانستان. يولي للمذهب الشيعي والصوفية، وبخاصة الطريقة النقشبندية، في دراساته اهتماما كبيرا. حصل في السنوات المتأخرة على دكتوراه فخرية من جامعة طهران التي ترجع صلته بها إلى السنوات الأولى من ستينيات القرن الماضي، حيث نال منحة من هذه الجامعة في طور إعداده لرسالة الدكتوراه ومكث فيها ما يقرب من ثلاث سنوات.
عاد إلى جامعته، جامعة كامبريدج، سنة 1963، لاستكمال تحضيره لأطروحة الدكتوراه التي كان موضوعها: «الدور السياسي لعلماء الشيعة في القرن التاسع عشر» والتي دافع عنها سنة 1965. بعد حصوله على درجة دكتوراه راسل جامعة الملك سعود بالرياض، من أجل أن يتعين مدرسا فيها، لكن لم يأته رد منها يفيد بالموافقة أو الاعتذار. حرّك رغبته في التدريس بهذه الجامعة، شعور عاطفي روحي، حيث كان يريد أن يعمل في أقرب مكان للأماكن المقدسة في مكة والمدينة. وحين لم يأته – بعد مضي شهرين – رد من جامعة الملك سعود، راسل جامعة كاليفورنيا، فتم قبوله فورا للتدريس فيها.
يتقن حامد ألجار اللغة الفارسية واللغة العربية واللغة التركية القديمة والتركية الحديثة، وعددا من اللغات الأوروبية، إضافة إلى لغته الأم، اللغة الإنجليزية.
هو أميركي الجنسية، بريطاني الأصل. اعتنق الدين الإسلامي في شبابه. وهو شيعي المذهب. وقد تسمى بحامد بعد إسلامه، ولم أتمكن من معرفة اسمه قبل إسلامه. وربما اختار هذا الاسم لمحبته وإعجابه بالإمام أبي حامد الغزالي الذي ألّف كتابا عنه.
تربط حامد ألجار صلة شخصية بالإمام الخميني منذ أن كان في منفاه بباريس. وقد ترجم مختارات من كتاباته وخطبه إلى الإنجليزية في كتاب عنوانه «الإسلام والثورة». وهو من المناصرين الأشداء – ولا يزال – للثورة الإيرانية.
من كتبه: «الدين والدولة في إيران: 1785 – 1906»، «جذور الثورة الإسلامية في إيران»، «ميرزا مالكوم خان: دراسة في السيرة الذاتية في الحداثة الإيرانية»، «الصوفية: المبادئ والتطبيق»، «السنة: جوانب الإلزام والقدوة فيها»، «المسيح في القرآن»، «سورة الفاتحة: مؤسسة للقرآن»، «الوهابية بحث نقدي»، «السنة: بوصفها أنموذجا إلزاميا يحتذى». وله محاضرات ودروس دينية محضة، يعنى بها عادة رجال الدين والوعاظ الشيعة، ألقاها ولا يزال يلقيها في جامعة كاليفورنيا – بيركلي.

هل منع قطب والإخوان انتشار الماركسية في مصر؟

هناك عدة أخطاء مؤثرة في دارسة حامد ألجار حول تاريخ سيد قطب والحركة الإخوانية في مصر، توقفت عندها في الدراسة الموسعة التي تنشر في مجلة «المجلة» كاملة. من هذه الأخطاء زعم ألجار أن إعدام سيد قطب حدث بعد فترة قصيرة من رحلة إلى موسكو.. واللافت للنظر – أيضا – أن تأثير الإخوان بشكل عام، وسيد قطب على الخصوص، كان سببا حائلا دون انتشار الماركسية في مصر.

والتعليق على هذا الكلام هو: إن استحضار التفسير التام والكامل الذي نجده عند زينب الغزالي – من أعضاء تنظيم 65 الأساسيين – يفسد على حامد ألجار تفسيره المجتزأ. ففي تفسيرها أن القبض عليها وعلى التنظيم وإعدام سيد قطب ويوسف هواش، وصديقها القريب عبد الفتاح إسماعيل، تم بتعليمات أولا من المخابرات الأميركية ومن المخابرات السوفياتية ثانيا ومن وليتها الصهيونية العالمية ثالثا.
ثم إن هذا التفسير العجيب والعجائبي، نلقاه عند عدد من كتبة الإخوان المسلمين، وربما استمده ألجار من كتاب يوسف العظم «الشهيد سيد قطب: حياته ومدرسته وآثاره»، ومن كتاب صلاح الخالدي «سيد قطب الشهيد الحي» اللّذين كانا من بين مراجعه المكتوبة باللغة العربية، ولم يأخذه مباشرة من كتاب «أيام في حياتي» لزينب الغزالي. ثم اجتزأه ليمنحه – كما قلنا سابقا – وجاهة ما.
ولمن يهمهم التأصيل، أقول إن هذا التفسير – على نحو رباعي – يتكرر عند سيد قطب حتى في الانشقاقات ما بين الإخوان المسلمين، التي أنهكتهم قبل أن ينهكهم عبد الناصر وأرهقهم استمرارها بعد أن زج بهم في المعتقلات. تفسير سيد قطب ذو الأركان الأربعة يقوم على أن أميركا والصليبية الغربية والصهيونية (أو اليهودية العالمية) والشيوعية متآمرون على الإخوان المسلمين وعليه شخصيا، لأنه كشف مخططاتهم التآمرية، ولأنه مفكر إسلامي أصيل!
هذا ما يمكن التعليق به على القول الأول. أما التعليق على القول الثاني، فهو على النحو الآتي:
لم يكن للإخوان المسلمين بشكل عام وسيد قطب على الخصوص، تأثير في عدم انتشار الماركسية في مصر خاصة في عقدي الخمسينات والستينات لأسباب عملية وسبب فكري. ذلك أن عبد الناصر ونظامه قبل تبنيه لونا من الاشتراكية وبعد تنبيه مزيدا من الاشتراكية كان معاديا للشيوعية. وكانت التنظيمات الشيوعية في عهده محظورة، كما أنه زج بالإخوان والشيوعيين في السجون.
قد لا يعرف حامد ألجار أن في مصر في العهد الناصري إدارة اسمها مكافحة الشيوعية تابعة لجهاز الاستخبارات، كان أول رئيس لها حسن التهامي، أحد الضباط الأحرار. وتلاه في رئاستها ضابط شهير عند الشيوعيين هو اللواء حسن المصيلحي، لأنه عني بمطاردتهم ومكافحة الشيوعية.
ومن الأسباب العملية التي تحول دون أداء الإخوان المسلمين وسيد قطب الدور الذي زعمه لهم ألجار، أن حركة «حدتو» الشيوعية والحزب المصري الشيوعي تمكنا من إنشاء جبهة وطنية مكونة من الشيوعيين ومن بعض الإخوان المسلمين وبعض الوفديين على مستوى الطلاب تطالب بإسقاط حكم الجيش. وقد وصل الشيوعيون إلى مستوى معين من التنسيق والتحالف مع الإخوان المسلمين.
وفي ظل هذا التنسيق والتحالف أعلن المرشد حسن الهضيبي موقفا جديدا من الشيوعية. فالشيوعية – حسبما قال – لا تقاوم بالعنف والقوانين. وأنه لا مانع لديه من أن يكون للشيوعيين حزب ظاهر، والإسلام كفيل بضمان وسلامة الطرق التي تسلكها البلاد.
وفي ظله أيضا، اشترك الإخوان في توزيع منشورات الحزب الشيوعي المصري، التي تدعو إلى إسقاط حكم الجيش واشتركوا في مظاهرات الشيوعيين لإسقاط حكم العسكر سنة 1954.
إن العقوبة التي تلقاها سيد قطب، وهي سجنه خمسة عشر عاما، إثر حادث المنشية، كانت بسبب تحريره نشرة سرية عنوانها «الإخوان في المعركة»، التي كانت تطبع في مطابع الحزب الشيوعي المصري السرية، تتهم عبد الناصر ونظامه بالعمالة للاستعمار الغربي وتعريض البلاد لمخاطر الحرب العالمية الثالثة المتوقعة، وعقد معاهدة سرية مع إسرائيل، واتهام الضباط بسرقة أموال الشعب، وعبد الناصر بتأثيث بيته بمفروشات من القصور الملكية المصادرة عن طريق لجنة جرد القصور. وبسبب هذه المنشورات السرية تعرض سيد قطب، في بداية سجنه سنة 1954، لتعذيب شديد، إذ إن فيها حتى عند بعض قيادات الإخوان المعتدلة، اتهامات جاوزت الحد، وبعض منها يعلمون أنها غير صحيحة. وحين اعترضوا اتهمهم الهضيبي ومعه سيد قطب بمهادنة السلطة. أما الإخوان المسلمون الذين لم يفضوا تحالفهم مع السلطة ولم يقطعوا تعاونهم معها، فهم بحسب تقرير اجتماع ما بين الحزب الشيوعي المصري بقيادة الدكتور فؤاد مرسي ورسول الإخوان المسلمين، سيد قطب، ممثلا لجناح الهضيبي: «نفر من الإخوان الخونة الذين يسيرون وفق خطط الاستعمار».
إن هذا الدور الذي افترضه ألجار لتأثير الإخوان وسيد قطب في التسبب بعدم انتشار الشيوعية بمصر، ليس صحيحا في عهد عبد لناصر، وصحيح – مع إضافة أسباب كثيرة – في عهد السادات.
أما ما قبل الثورة، فلقد كان لهم، إلى حد ما، هذا الدور في الأوساط العمالية، وإلى حد ما أيضا في الأوساط الطلابية الجامعية وما قبل الجامعية لكن مع ملاحظة أن تركيزهم الأساسي كان منصبا على تنافس وصراع عملي مع أحزاب سياسية لم تكن يسارية ولا شيوعية.
إننا لو تأملنا في سير عدد من المثقفين المصريين، الأكاديميين وغير الأكاديميين قبل الثورة وفي أثنائها، لوجدنا أنهم في بداية حياتهم كانوا إخوانا مسلمين ثم تحولوا إلى اليسار. ولا نجد العكس إذا ما تأملنا في سير الإخوان المسلمين، إذ لا نجد فيهم قبل تلك الفترة وفي أثنائها من كان يساريا في سابق حياته أو من هو مقبل من تجربة ثقافية مغايرة تماما لتجربتهم. الاستثناء في هذا كان سيد قطب، المقبل من تجربة أدبية ثقافية رومانتيكية. لم يكن فيها علمانيا صرفا ولا من دعاة الثقافة الغربية على نحو واضح، على الرغم من غرامه بالقراءة في أدبياتها المترجمة إلى العربية.
السبب الفكري الذي يفسر الملحوظة السابقة، أن مؤلفات الإخوان المسلمين في الثلاثينات والأربعينات، ابتداءً من مؤلفات المرشد والمؤسس الأول، هي مؤلفات هزيلة على مستوى الفكر الديني الإسلامي وعلى مستوى المعاصرة، قالبا ومضمونا. ولم يكن بوسعها – نظرا لهذه العلة المزدوجة – أن تزاحم أو تنافس لا الفكر الليبرالي المصري المستظل بنظرية القومية المصرية، ولا المؤلفات الإسلامية التي كتبها علماء الأزهر وأكاديمييه، وكتبها آخرون من ذوي الاتجاه الإسلامي العام ومن أصحاب الاتجاه الليبرالي. ناهيك عن أن تكون مؤهلة لمقارعة الفكر الماركسي.
ثم مع حصول تطور ما في هذه المؤلفات الهزيلة في أواخر الأربعينات، كما في كتابي الغزالي: «الإسلام والأوضاع القانونية» و«الإسلام والمناهج الاشتراكية» اللذين كتبهما بلغة ثورية مشبوبة واستلحق الاشتراكية فيهما بالإسلام، لم يكن لهما في طبعتيهما الأوليين ولا مع إعادة طباعتهما في سنوات الخمسينات والستينات، تأثير يذكر سوى التأثير الذي جعل سيد قطب يكتب كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي كان له منذ أول صدوره تأثيره في بعض الضباط والأحرار، حينما كانوا تنظيما سريا، وتأثيره في جماعة الإخوان المسلمين. لكن سيد قطب حينما ألف كتابه هذا متأثرا بكتابي الغزالي لم يكن يساريا ولم يكن مثل الغزالي منضويا في جماعة الإخوان المسلمين ولا معبرا عن فكرهم السياسي والاجتماعي.
ولا يسعنا – بمناسبة الحديث عن كتابي الغزالي – إلا أن نقرر أن حظهما كان عاثرا، فلقد اكتسحهما في البداية كتاب سيد قطب ثم طغى عليهما كتاب السباعي الذي كان هو المعول عليه والمرجع الذي يعتمد عليه للقول باشتراكية الإسلام في العهد الناصري.

من المؤلف الحقيقي لكتاب الهضيبي: «دعاة لا قضاة»؟

من الأخطاء الواضحة التي وقع فيها ألجار في دراسته هذه هو قوله: «وعلى الرغم من تجربته الشخصية في السجن، نجد أن الهضيبي كتب ما يمكن وصفه بنقض لكتاب سيد قطب (معالم في الطريق) سماه (دعاة لا قضاة). أشار في كتابه إلى أن الجاهلية هي ظاهرة تاريخية حصرية، وليست ظاهرة تاريخية متجددة. ولذا فهي ليست قابلة لنعت مجتمع مسلم معاصر، بالجاهلي».
تعليقي على هذا الكلام هو: كشف اللواء فؤاد علام وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق في كتابه: «الإخوان المسلمون وأنا» أن كتاب «دعاة لا قضاة» المنسوب للمرشد حسن الهضيبي ليس له. وأن الكتاب وراءه مباحث أمن الدولة، وأنه تم إعداده بواسطة بعض علماء الأزهر، وأن الذين شاركوا في إعداده إلى جانب علماء الأزهر بعض المعتقلين من الإخوان المتعاونين مع هذا الجهاز. (راجع قصة هذا الكتاب والأسباب التي دعت إلى تأليفه وكيف تمت نسبته إلى الهضيبي في كتاب فؤاد علام المشار إليه آنفا، ص 209، 210، 211، 212).

وسأخصص مقالة مستقلة أذكر فيها شواهد، تثبت أن الكتاب لم يؤلفه الهضيبي.

هل هناك قطب لبناني آخر؟

ذكر ألجار كتابا غامض العنوان في دراسته هو:

Qutb. Muhammad, Sayyid. Al – Shahid Al – Ghazali. Cairo. 1974.

(محمد قطب: سيد قطب، الشهيد الغزالي – القاهرة، 1974).

تعليق: لا أخفيكم أني أمضيت يوما أو بعض يوم لفك شفرة عنوان هذا الكتاب، لعلمي المسبق أن محمد قطب لم يخص أخاه سيد قطب بتأليف كتاب عنه. وأنه لا يعرف له كتاب صادر في منتصف السبعينات. ثم ما علاقة عنوان الكتاب الأساسي «سيد قطب» بعنوانه الشارح «الشهيد الغزالي» الذي هو أساسا عنوان مغلوط. فالإمام أبو حامد الغزالي مات ميتة طبيعية ولم يغتل، ليحكم له بالشهادة.
الكتاب بعدما فككت شفرة عنوانه عرفت أن المقصود به كتاب «سيد قطب: الشهيد الأعزل» لمحمد علي قطب. وهذا الكتاب هو الكتاب نفسه الذي كان نشره في الستينات تحت عنوان «سيد قطب أو ثورة الفكر الإسلامي»، مع بعض الإضافة اليسيرة، وإعادة نشر مقالة لمحمد قطب شقيق سيد كان كتبها في مجلة «الشهاب» – كما ذكر ذلك صلاح عبد الفتاح الخالدي – لتكون بمثابة مقدمة للكتاب.
محمد علي قطب – بصرف النظر عن التصحيف الذي وقع في كتابة اسم كتابه باللغة الإنجليزية – يجب أن لا يكتب اسمه بطريقة ثنائية. لأن ذهن القارئ سينصرف مباشرة إلى شقيق سيد قطب، محمد. أحسب أن حامد ألجار كتب اسمه بطريقة ثنائية اتباعا لأحمد موصلي في كتابه «الفكر الإسلامي المعاصر، دراسات وشخصيات، سيد قطب، بحث مقارن لمبادئ الأصوليين والإصلاحيين» الذي هو أحد مراجعه المكتوبة باللغة الإنجليزية. فأحمد موصلي – ولعله الوحيد في ذلك – كتب اسمه بطريقة ثنائية.
ويحسن بي – نظرا لأنه يتعمد أن يوقع القارئ في ارتباك بين الاسمين، فيعتقد القارئ أنه من آل قطب وأنه مصري – أن أعرّف به.
محمد علي قطب (أو القطب كما هو اسم عائلته الرسمي): لبناني صيداوي. من أتباع دعوة الإخوان المسلمين في لبنان. درس في الأزهر. وتعرف على سيد قطب شخصيا في أثناء دراسته في مصر. مكث في مصر مددا طويلة في فترات متقطعة. ربما لأنه متزوج مصرية. اشتغل بالتدريس، متوفٍ من سنوات قريبة. مكثر في تآليفه. ولعل أشهرها «يهود الدونمة» و«مذابح وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس» و«خبز وحرية» و«مسلمات مؤمنات» و«دليل الحيران في تفسير الأحلام».
ولزيادة التعريف به، أذكر أنه هو أبو الممثلة راندا، زوجة المخرج عادل عوض، ابن الممثل الكوميدي الراحل محمد عوض.

السير خلف الرواية الإخوانية

نختتم مراجعتنا للمقدمة بتوجيه ملحوظة، أراها أساسية.

هذه الملحوظة الأساسية، هي أن حامد ألجار في مقدمته اكتفى برواية الإخوان المسلمين عن سيد قطب وعن تاريخهم وصدّق هذه الرواية ذات الطابع الدعائي، المحشوة بالمبالغات التي تتضمن قدرا من حكايات مخترعة وحزمة من العبارات الملفقة، وأهمل كليا الرواية الرسمية في عهد عبد الناصر، ولم يلتفت إلى كتب آخرين من اتجاهات أخرى، قدمت سياقا مختلفا لهذه الرواية، وناقشت ما في محتواها من تدليس وزيف، ولا إلى كتابات تمثل، من ناحية معلوماتية وأخرى تحليلية، مرحلة متقدمة ومتطورة في الدراسات المقدمة حول فكر سيد قطب وتحولاته وتاريخه. أن يكون حامد ألجار مؤمنا بالرواية الإخوانية ومصدقا لها أشد التصديق، فهذا أمر سائغ ومفهوم ولا عُجب فيه، لكن ما هو غير سائغ وغير مفهوم وعجيب – كل العجب – أن غيره من غربيين كثر، هم أيضا أسيرو الرواية الإخوانية، وتشملهم تلك الملحوظة التي نبهت عليها، على الرغم من أنهم ليس مثله مسلمين، وليسوا مثله متشيعين سياسيا وعقديا لإسلام سيد قطب وإسلام الإخوان المسلمين وإسلام الثورة الإيرانية.

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية
 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى