هل من بديل يعوّض “إسرائيل” من وحل الاجتياح البري لغزة؟…منذ انطلاق الطوفان، الذي اجتاح المستوطنات الصهيونية المحيطة بقطاع غزة، صباح يوم السبت 7/10/2023، أصبح من الواضح لكل “إسرائيلي” تقريباً، أن على “دولته” أن تفعل شيئاً ما ضد المقاومة في غزة، لتردّ بعض ماء وجهها، وربما جزءاً من هيبتها وردعها اللذين قوضتهما أمواج الطوفان، وأن تقدم صورة انتصارٍ، أياً تكن، إلى “شعبٍ” أوقعته صدمة الضربة الاستباقية للمقاومة في حالة هزيمة وخوفٍ غير مسبوقين.
استغرق النظامان السياسي والعسكري الإسرائيليان تقريباً ثلاثة أيام للعودة إلى رشدهما والمبادرة إلى الرد. على إثر أكبر فشل في “تاريخ إسرائيل”، استخبارياً وعسكرياً. وسرعان ما تعالت الأصوات، تحت ضغط الهزيمة المذلّة في بداية المعركة. التي تدعو “إسرائيل” إلى أن تردّ بـاجتياحٍ كامل، وبـعملية برية كاسحة أيضا.
استدعاء احنياطي الجيش من أجل الاجتياح البري لغزة
لذا، استدعت اسرائيل نحو 400 ألفٍ من احتياطي جيشها من أجل غزو قطاع غزة. ومع استمرار “إسرائيل” في استخدام فائض النار الجوية لتدمير البنى التحتية المدنية الفلسطينية، وما رافقه من استباحة البشر والشجر والحجر، استمر الجدل بشأن جدوى الدخول في عمل بري يحقق لها أهدافها السياسية التي أعلنتها، عبر إحداث تغيير جذري للوضع، يجرّد حماس من القدرات العسكرية والسياسية، وييهي حكمها للقطاع.
هل من بديل يعوّض “إسرائيل” من وحل الاجتياح البري لغزة؟
ومع كل ما تَلَقّتهُ “إسرائيل” من حليفتها الولايات المتحدة، والدول الغربية، مما لم يكن في وسعها حتى أن تحلم به، من دعم معنوي ودعم مادي أيضا. ومع إدراك أركان النظامين السياسي والعسكري الإسرائيليين أن تاريخ الحروب يفيد قطعاً بأنه يصعب تحقيق انتصارٍ جوي على الخصم، وأنه لا بد من السيطرة البرية، لم يقدِم “إسرائيل” حتى اللحظة على أي عملٍ بري، ولا يبدو أنها ستفعل في الأفق القريب، إلى درجة أن بعض قادة جيش الاحتلال انتقدوا تأجيل الموعد النهائي للهجوم البري أكثر من مرة، بزعم “أن كل ساعة تمر من دون الاجتياح البري لغزة تَضرّ بالجيش. كما وتسمح لحماس بالاستعداد بصورة أفضل في قطاع غزة”.
والواقع أن العمل البري ظل تاريخياً مأزقاً يتهرب منه الاحتلال، ويضعه في آخر خياراته العسكرية، بسبب الجِراح والعقد الغائرة عميقاً في الذاكرة الإسرائيلية، نتيجة المواجهات البرية التي خاضها جيشها “الذي لا يقهر”، وخرج منها مهزوماً كسيراً.
واللافت كذلك أن اًصواتاً كثيرة، إسرائيلية وغربية، وعلى الرأس منها أميركية، منادية بمخاطر الدخول البري وأثمانه الباهظة، تزايد ضجيجها مؤخراً، حتى باتت تطغى على تلك القائلة بضرورة الحسم البري، وإن عَلا ثمنه وطال وقته.
وقال المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، الجنرال دايفد بترايوس:
إن الهجوم البري الإسرائيلي المحتمل على قطاع غزة “سيستمر أعواماً، وسيتضمن قتالاً مروّعاً”. وأكد بترايوس، في مقابلة مع صحيفة “بوليتيكو” الأميركية. أنه “في حال توغلت إسرائيل براً في القطاع فستواجه وضعاً أصعب من الذي واجهته القوات الأميركية في الصومال. وستقابَل بهجمات انتحارية وعبوات ناسفة ومفخخات وكمائن”.
أما البروفيسور بروس هوفمان، الخبير في مكافحة الإرهاب في جامعة جورج تاون. فأكد “أن الصعوبات في غزة أكبر كثيراً من تلك التي واجهتها الولايات المتحدة في معركة الفلوجة في العراق. لأن حماس كان أمامها عدة أعوام للاستعداد”. في حين أشار الجنرال البحري المتقاعد كينيث ماكنزي، الذي كان حتى العام الماضي قائداً للقيادة المركزية الأميركية. والتي تشمل الشرق الأوسط، أن “الأمر سيكون بمثابة حَمّام دمٍ للجميع”. ووفق تقديره. “ستكون المعركة طويلة الأمد. وقد تتورط فيها إسرائيل بسبب طبيعة الحرب التي لا يمكن التنبؤ بها في المناطق الآهلة”.
مخاطر الهجوم البري
أمّا إسرائيلياً، فشدّدَ مسؤولون كِبار في المؤسسة الأمنية. وبينهم ديفيد إيفري، المدير العام السابق لوزارة حرب العدو، على أن دخول غزة سيكون خطأً. فـ”الحدث المؤلم الأخير سيجعل إسرائيل تَرُدّ بدخول غزة. وعندما نتوغل بعمق، سيدخل حزب الله المواجهة. فغزة هي الفخ الذي نسير إليه، وفق الخطة الإيرانية”.
وزير حرب “إسرائيل”، يوآف غالانت:
ولم يغب عن وزير حرب “إسرائيل”، يوآف غالانت أن يؤكد هو الآخر أن “القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة لن يكون سهلاً. وسيستغرق وقتاً طويلاً، وسنكون دقيقين وحادّين وفتّاكين. وسنستمر حتى نكمل المهمة”. مشدداً على أن هدف الحرب هو “محو حماس من الوجود. وستكون هناك خسائر، لكننا سنحقق ذلك مهما طالت الحرب”، على حد قوله.
وبعيداً عن الاستعراض الأرعن المعميّ بِذل الخسارة:
يدرك غالانت جيداً أن “إسرائيل”، التي جربت هذا الحل في الماضي، في لبنان وفي ساحاتٍ أخرى. تَعلَمُ بأن الدخول البري سيؤدي إلى موجة متزايدة من الكراهية والمقاومة من العالمين العربي والإسلامي. بل من العالم أجمع. ناهيك بالمخاطر التي تتهدد اتفاقيات السلام والتطبيع والعلاقات الأخرى. التي عقدتها “إسرائيل” مع دول الشرق الأوسط.
والواقع أننا لسنا في صدد الخوض فمعضلات “إسرائيل” الكبرى في الحرب البرية، ولا في الأثمان الباهظة التي ستدفعها حتماً، في حال عرِقت في وحلها، وإنما فيما بِتنا نقرأ ونسمع من دعواتٍ لافتة تشير إلى أن الذهاب إلى حربٍ برية في غزة، يمكن أن يضاعف الهزيمة الصهيونية بدلاً من أن يعدّلها، الأمر الذي يدلّ على أن “إسرائيل” بدأت تنزل فعلاً عن شجرة الغرور والغطرسة التي اعتلتها، مع بداية ردة فعلها على طوفان الأقصى.
وبتنا نسمع كذلك أن الذي “يريد نتائج فعلية تمسّ قدرات حماس العسكرية والسياسية، فإنه يحتاج إلى الوقت والصبر”، وأن على “الجمهور” الإسرائيلي “أن يكون مستعداً لجهدٍ طويل، فما يحتاج إليه الجيش الإسرائيلي الآن ليس مزيداً من الذخيرة أو المعدات، بل الوقت، قبل أن يتخذ قراراً يقضي بنقل القتال إلى أراضي العدو”. فهل تصدأ سيوف “إسرائيل” الحديدية الثلمة أصلاً، قبل أن تصل إلى تلك اللحظة!
ولعل الأكثر غرابة:
أن البعض، في غمرة ضجيج طبول الحرب التي تضرب كل زاوية في “إسرائيل”، بات يطرح أن لا مفر من الاعتراف، “بشجاعة وصدق”، بأنه لا يمكن القضاء على المقاومة، على الأقل في هذه المرحلة، ويرى في الدعوة إلى خوض الحرب لتفكيك حماس وإنهاء حكمها “استمراراً للغطرسة التي لم تتمكن “إسرائيل” من تحرير نفسها منها، منذ حرب حزيران/يونيو 1967″.
وإذا كان الاجتياح البري لغزة لم يعد مطروحاً في جدول الأعمال الحربي الإسرائيلي. وإن موقّتاً، فما السيناريو الذي قد يفرض اختراقاً فورياًمضاداً لموازنة مشهد الهزيمة، وخصوصاً أن استمرار الانتقام من البنية التحتية المدنية ليس خطة عمل استراتيجية تقود إلى نتائج ملموسة!
وما الخيارات “التعويضية” البديلة القابلة للتنفيذ!
لا شكّ في أن الولايات المتحدة اليوم شريكةٌ في دراسة هذه الخيارات. بل ربما تقودها بالفعل أمام الاهتزاز والفقدان للتوازن، سياسياً وعسكرياً.لدى القيادة الإسرائيلية. فحين سئِل جو بادين، في أثناء رحلة العودة إلى واشنطن، بعد زيارته لـ “إسرائيل”، عن احتمال حدوث غزو بري إسرائيلي واسع النطاق لغزة. ردّ قائلاً: “أجرينا محادثة طويلة بشأن الاجتياح البري لغزة . وجيشنا يتحدث مع الجيش الإسرائيلي بشأن البدائل المتعددة”. لكنه رفض تقديم تفاصيل.
ولعل هذا أيضاً ما عبّرت مجموعة من قيادات الجيش الإسرائيلي، بين الفينة والأخرى. عبر قولها “إننا سوف ندخل عندما يكون الأمر ملائماً من الناحية التنفيذية. فليس الجمهور وحده من يحتاج إلى التحلي بالصبر، بل قمة الهرم القيادي في الجيش الإسرائيلي، فالصبر ليس تردُّداً، بل هو وسيلة لخلق اجتياح بري أكثر فعالية”.
في أيّ حال، تشير التقديرات إلى أن الدخول البري، في حال حدث، سيستمر عدة أشهر. لذا يطرح البعض أن من الأفضل أن يتم بوتيرة وفي مكان تحدده “إسرائيل”. بعد إعادة عجلة الاقتصاد المتعثرة خلال هذه الفترة. وإيجاد السبل الكفيلة بالتعامل مع قضية إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في الوقت نفسه. وحتى ذلك الحين “لن تكون هناك صورةٌ للنصر. وستستمر حماس في التباهي”. هذا الموقف عبر عنه بايدن شخصياً، وخصوصاً بعد الإفراج عن الأسيرتين الأميركيتين لدى المقاومة، إذ تقل عنه قوله: “من الأفضل تأجيل الدخول البري حتى إطلاق سراح مزيد من الأسرى الإسرائيليين”.
سيناريوهات محتملة لاستمرار الحرب ضد حماس في غزة،
أمّا شمريت مئير، مسؤولة الشؤون العربية والمستشارة السياسية السابقة لرئيس الوزراء الصهيوني. نفتالي بينت، فتحدثت عن ثلاثة سيناريوهات محتملة لاستمرار الحرب ضد حماس في غزة، أحدها، وربما الأكثر واقعية، هو الضغط الأميركي، الذي يهدف إلى منع الدخول البري لغزة، معتقدةً أن زيارة بايدن مثّلت “نهاية العملية، وليس بدايتها”.
ووفق شمريت، “لن يكون هناك دخول واسع النطاق لغزة، ولن يكون هناك انهيارٌ لحماس، ولكن ربما شيء ما”، اعتادت القيادة السياسية الإسرائيلية أن تفاخرَ به أمام “الجمهور الإسرائيلي”، بعد كل مواجهة، عبر قولها إن “حماس تلقّت ضربةً قوية ساحقة”، وربما يكون هذا الأمر، هذه المرة، “مصحوباً بصفقة أسرى كبيرة”!
الخيارات البديلة
أحد الخيارات البديلة، الذي تنفذّه “إسرائيل” الآن، هو استمرار الغارات الجوية، فترةً طويلة، من أجل الضغط على القاعدة المدنية بالقتل العشوائي، وإلحاق أكبر ضرر ممكن، وشل كل مناحي الحياة، مع التركيز على الحصار والخنق، من أجل تعريض البنية التحتية لحماس للتأكّل، حتى يصبح الدخول البري أكثر سلاسة، ثم “خلق حدود على الطراز الكوري الجنوبي في شمالي البلاد”، أي منطقة واسعة عازلة، تمتد مسافة 3 كم من الجهتين الشرقية والشمالية من الحدود مع الأراضي المحتلة عام 1948.
هذا يعني ترحيل نحو 400 ألف نسمة، وإفراغ ما يتراوح بين 50 و70 كم من أراضي القطاع، تكون القوات الإسرائيلية مرئية فيها طوال الوقت، ويتم إطلاق النار على أي شخص يعبر خطاً معيناً من دون تردد. وربما نفهم بذلك رغبة “إسرائيل” في تدمير أكبر عدد ممكن من البيوت السكنية، وإفراغ مساحات أكبر من الأرض، ولا سيما في المناطق القريبة من الحدود أو الشواطئ، بهدف دفع الكتلة البشرية، التي تقطن هذه المناطق، تحت سطوتَي النار والقتل، إلى مغادرة مساكنهم في اتجاه الجنوب والوسط.
والمقصود أن تستمر طائرات سلاح الجو الصهيوني في تدمير البنية التحتية والمباني:
عبر آلاف الأطنان من المتفجرات، وبالتوازي تقوم مدافع “الجيش الإسرائيلي” بصب حممها على غلاف غزة من أجل مواصلة دك شبكة الأنفاق تحت الأرض، مع ضمان عدم تدفق المساعدات التي تصل إلى جنوبي قطاع غزة إلى مدينة غزة. وعندما تَضعف بعد حصارٍ كامل لمدة شهرين على الأقل، “يتم غزوها بسهولة أكبر وبخسائر أقل”.
إذاً، ليس هناك حاجة إلى الاندفاع إلى غزة، وفق الرؤية الإسرائيلية الآخذة في التبلور. و”كل ما علينا فعله هو أن نتركهم يختنقون في الأنفاق مدة شهرين أو ثلاثة أشهر من دون كهرباء. ومن دون طعام أيضا. وسوف ينهارون من تلقاء أنفسهم. وعندها سيكون عمل الجيش الإسرائيلي أسهل”. بالتوازي، ربما تطمح “إسرائيل”، عبر تفوقها الاستخباري وذخيرتها الدقيقة، إلى الوصول إلى أهداف مؤثرة في منظومة قيادة المـقـاومة، على نحو يمنعها من مواصلة الحرب، أو على الأقل يحدّ كفاءتها.
إذاً، يقوم تكتيك الاحتلال بالتعويض من الحرب البرية عبر جعل دمائنا وحياتنا عبئاً ثقيلاً علينا. أي أن يمحو بلحمنا ودمنا آثار هزيمته النكراء وانتصار المقاومة المؤزّر. ومن يدري، ربما يبدأ بعد ذلك دور الأنظمة المهرولة والمتأزّمة. كما عوّدتنا، في مد سلالم النزول عن شجرة الهزيمة لـ “إسرائيل”.
لكن الأهم أن “إسرائيل”، ومعها الغرب المتبني الأعمى والداعم المطلق، باتوا يدركون أزمتهم، ويقرّون بأن غزة، كما كل جغرافيا فلسطينية أو عربية محتلة، لا حل لها، وأنها ستبقى قادرة على فرض الهزيمة بالمقاومة ما دامت تتنفس، ولن تفلح الحرب الجوية أو البرية في رتق فتق “إسرائيل”، الآخذ في الاتساع.