هل يستفيد خصوم الإسلاميين من أخطائهم؟ (د. وحيد عبد المجيد)

د. وحيد عبد المجيد

حصد الإسلاميون نتائج الأخطاء التي ارتكبها نظاما الحكم السابقان في مصر وتونس. ورغم أنهم لم يتمكنوا من تكرار ذلك في ليبيا، حيث تصدر تحالف وطني المشهد وحصلت قوائمه على 39 مقعداً مقابل 17 لحزب "الإخوان المسلمين"، فقد استمالوا عدداً لا بأس به من المستقلين ذوي الميول الدينية الفائزين بالمقاعد الفردية. وحصل محمد المقريف القريب نسبياً منهم، ومن الليبراليين أيضاً بدرجة أقل، على رئاسة المؤتمر الوطني العام (البرلمان المؤقت المنتخب في 7 يوليو الماضي).

وكان صعود الإسلاميين عبر استغلال الأخطاء التي ارتكبتها نظم عربية في شمال أفريقيا متوقعاً منذ سنوات عندما تبين أن أحد أهم هذه الأخطاء هو إضعاف المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية ومحاصرة أحزابها المشروعة وتقييد حركتها ومحاولة إلحاقها بالسلطة.
ورغم أن الجماعات والحركات الإسلامية تعرضت للقيود نفسها وأكثر منها إذ طورد قادتها وأعضاؤها واعتُقل كثير منهم، فقد تمكنت من المحافظة على تنظيماتها وضم مزيد من الأعضاء إليها والحصول على شعبية أخذت في التوسع بمقدار ما ازدادت أخطاء نظم الحكم. فقد استثمرت تلك الجماعات والحركات ميزة نسبية تتمتع بها ولا تتوفر لغيرها من التيارات الأخرى، وهي المرجعية الدينية التي مكّنتها ليس فقط من كسب المعركة على قلوب الشعب في البلاد المشار إليها، ولكن أيضاً من استخدام أدوات لا تملكها الاتجاهات غير الإسلامية، بما في ذلك المساجد وما يُلحق بها من مراكز طبية وتعليمية واجتماعية وغيرها.
وأتاحت المرجعية الدينية للحركات الإسلامية مساحات أوسع بكثير في التواصل مع المجتمعات اعتماداً على خطاب بسيط يسهل استيعابه والتفاعل معه، بخلاف خطابات التيارات الأخرى التي أخفقت في تبسيط لغتها المتعالية والنزول بها إلى أرض الواقع وتوصيلها إلى قلب المجتمع.
كما أن القمع الذي مارسته أجهزة الأمن ضد الحركات والجماعات الإسلامية أظهرها في صورة الضحية ومكنها من إقناع شرائح غير قليلة في المجتمع بأنها تتحمل تبعات "جهادها" من أجل الشعب ومصالحه.
وهكذا كان الإسلاميون هم الأكثر استعداداً لجني ثمار الحراك الشعبي الذي أحدث تغييراً في بعض البلاد العربية رغم أنهم لم يقوموا بالدور الرئيس في هذا الحراك. صحيح أنهم ساهموا فيه، لكنهم لم يخططوا لإطلاقه ولم يتوقعوا حدوثه. وقد ظلوا في السنوات القليلة السابقة على العام الذي شهد هذا الحراك (2011) كمن يجلسون تحت الشجرة بانتظار أن تنضج ثمارها وتقع بين أيديهم.
وعندما بدأت الثمار في التساقط فعلا، كانوا هم الأكثر قدرة على التقاطها فحققوا مكاسب سياسية سريعة وفوزا انتخابيا سهلا في تونس ومصر. غير أن ما يأتي بسرعة وسهولة قد يذهب بالطريقة نفسها أيضاً. وهذا هو ما يثير السؤال عما إذا كان بإمكان الحركات والجماعات الإسلامية التي صعدت إلى صدارة المشهد السياسي أن تحافظ على هذا الموقع الذي بلغته، وإلى أي مدى؟ ويقترن هذا السؤال بالضرورة بسؤال آخر وثيق الصلة به وهو: هل يستفيد خصوم الإسلاميين من أخطائهم، وكيف يمكن أن يحدث ذلك، وفي أي مدى زمني أيضاً؟
وتزداد أهمية السؤالين في ضوء التركة الثقيلة الصعبة الموروثة عن النظم التي أسقطها الحراك الشعبي بين أيدي الإسلاميين، وفي ظل ثورة التوقعات التي تجتاح المجتمعات في هذه البلاد وتجعل الكثير من فئاتها وشرائحها بانتظار حلول سريعة بل فورية لمشاكلها التي تستعصي على المعالجة في مدى زمني قصير وتحتاج إلى سنوات طويلة وجهود هائلة. وليس هناك ما يضمن نجاح هذه الجهود أو استعداد من ينتظرون نتائجها للتحلي بشيء من الصبر، بدليل أن "الإخوان المسلمين" في مصر فقدوا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو الماضي نحو نصف الأصوات التي حصلوا عليها في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أكتوبر ونوفمبر 2011. فاللعبة، إذن، لم تنته والكرة لا تزال في الملعب. والشعوب التي تحررت من القمع والقهر صارت في قلب هذه اللعبة وباتت طرفاً رئيسياً في المعادلة السياسية والاجتماعية الجديدة، الأمر الذي يخلق ضغوطاً هائلة ومتزايدة على نحو يجعل العمل من أجل حل المشاكل وتحقيق إنجازات وتلبية مطالب هذه الشعوب، أكثر صعوبة.
ومما يزيد أهمية السؤال عن إمكان احتفاظ الإسلاميين بمكاسبهم أنهم يخوضون اختبارهم الأول في السلطة في حالة يسودها الاضطراب وعدم الاستقرار ويقل فيها الشعور بالأمن والأمان والاطمئنان، ويشتد فيها الصراع السياسي والاجتماعي حتى في تونس رغم نجاح "حزب النهضة" في بناء ائتلاف ثلاثي يضم حزبين غير إسلاميين. لكن "حزب النهضة" يظل هو صاحب المسؤولية الأولى، وموضع الاختبار الرئيس. لذلك بدأت المظاهرات تخرج ضده وتهاجم بعض مقراته، ولم يمض على تشكيل حكومته مائتا يوم.
ولا يقل أهمية عن هذا كله أن الإسلاميين العرب يدخلون اختبارهم الأول في السلطة بقليل من الخبرة في مجال إدارة الدولة الحديثة ذات الأجهزة المتشعبة والمعقدة، وبنزر يسير من المعرفة بدروب هذه الأجهزة وأعماقها التي تصعب الإحاطة بها في وقت قصير. وليس سهلا بأي حال، في الوقت نفسه، وضع سياسات فاعلة تحقق إنجازاً ملموساً في وقت معقول، وتمزج بين العدالة الاجتماعية التي تشتد الحاجة إليها في بلاد بلغ فيها الفقر معدلات تتجاوز ما يظهر في أي إحصاءات أو بيانات (خصوصاً في مصر) من ناحية، وأدوات الاقتصاد الحر التي لا بديل عنها لتحريك عجلة الإنتاج وجذب الاستثمارات وحفز المستثمرين، من ناحية أخرى.
ويُضاف إلى ذلك أن الجماعات والحركات الإسلامية تفقد الآن أحد أهم مصادر قوتها، وهو التماسك الداخلي الذي لم يكن صعبا المحافظة عليه وهي تحت الملاحقة والمطاردة حين كان الخلاف في الرأي داخلها ترفاً لا مجال له. فقد أصبح هذا الخلاف ممكناً بعد أن خرجت من حالة "المحنة" واقتربت من وضع "التمكين". فلم يعد ثمة خطر في أن يبدي أعضاؤها آراءهم ويناقشوا دون أن يجدوا في ذلك ضرراً. كما أن الفجوة الجيلية في داخلها تدعم التوقعات القائلة بزيادة الخلافات تدريجياً.
غير أن استفادة خصوم الإسلاميين من هذا كله يتوقف على مدى قدرتهم على تنظيم صفوفهم والوصول إلى قلب المجتمع وتطوير خطاب جديد يمكن لبسطاء الناس استيعابه والتفاعل معه. وهذا ما نجح الإسلاميون فيه حين استفادوا من أخطاء النظم التي أسقطها حراك شعبي. فخسائر طرف ما لا تتحول مكاسب لطرف آخر تلقائياً.
فلابد أن يكون الطرف الذي تصب خسائر غيره في مصلحته قادراً على أن يحولها إلى مكاسب يجنيها فعلياً وإيجاد الظروف الملائمة لكي تفعل نظرية "الأواني المستطرقة" فعلها. فهذه الأواني لا تنقل الخسائر أو المكاسب من طرف إلى آخر في الساحة السياسية بدون أوعية مناسبة. ففي هذه الأوعية تتجمع حصيلة الخسائر في ناحية وتنتقل في صورة مكاسب إلى الناحية الأخرى.

صحيفة الاتحاد الإماراتية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى