الروائي العربي في ظل أفكار العولمة وما بعد الحداثة حاول أن يقيم روابط وأواصر بين الماضي والحاضر بأن يبحثفي فضائه الروائي عن عناصر التراث المختلفة؛ ليقيم بها جدلا فكريا ومعرفيا ودراميا في نصه الماثل، ويسترفد التاريخ الرسمي والاجتماعي والتراث الشعبي والديني والصوفي لتنهض تفاعلات نصية قادرة على تقديم معرفة بالذات القومية وصولا إلى سؤال الوجود الذي يمكن أن تقدمه الرواية.
انطلاقا من آفاق هذه الرؤية يأتي كتاب الروائية والناقدة د.هويدا صالح “آليات اشتغال التراث في المدونة الروائية العربية” الصادر أخيرا عن معهد الشارقة للتراث، حيث أكدت إن الرواية في سعيها إلى الانفتاح على الحقول المعرفية المتعددة تسترفد التراث بشتى تجلياته وأنواعه، وتتخذه نصا غائبا، تقيم معه جدلا فكريا، وربما يعود ذلك إلى ما أحدثته العولمة من هزة في الهوية الثقافية للكاتب العربي؛ مما دفعه إلى أن يعيد التفكير في البِنَى الفكرية والسوسيوثقافية التي تجعله يقاوم ذوبان الهوية الثقافية العربية، في خصوصيتها، في طوفان الثقافة العولمية التي لا تعترف بحدود وجغرافيا وأنساق ثقافية وهويات قومية.
أوضحت”كان للمبدع العربي من العودة إلى التراث موقفين متناقضين:الأول رأى العودة إلى التراث وسيلة من وسائل الدفاع عن الهوية، فوقع في فخ تقديس التراث وعبادته، أما الشكل الثاني فقد ذهب إلى ثقافة أخرى مفارقة للتراث يستلهمونها، ويسترفدون عناصرها الثقافية.وقد واجه المبدع الذي يرغب في العودة إلى التراث إشكالية فكرية، فالتيار الأول الذي قدّس أصحابه التراث ووقع في أتون الفكر الماضوي رأى في التراث مهربا سيكولوجيا وسوسيوثقافيا من مشكلات الحاضر والمستقبل، وما قوى إحساسه بذلك الفكر الإمبريالي الاستعماري الغربي الذي استعمر البلدان العربية لفترات طويلة وعمل على تذويب هويتها الثقافية. أما أصحاب التيار الآخر، فقد وقفوا على النقيض من هذه الرؤية للتراث، حيث رأوا أن الحداثة ومسايرة معطياتها تدفعهم إلى الابتعادعن التراث؛ والسعي حثيثا نحو الغرب ومعطياته الثقافية يستلهمونها، ويرون أن ذلك مسايرة للتطور والتقدم ورفضا لما يمثله التراث من راديكالية.
وتابعت صالح “ينطلق أصحاب الموقفين، المتحمس للتراث والرافض لهمن وعي مغلوط بأن التراث مضاد للحداثة، وتتحفظ الباحثة على هذا التصور، فتراث كل أمة لا يعني أنه مضاد للحداثة. كما أن إفادة الروائي من هذا التراث يفترض بها أن تنزع القداسة عن ذلك التراث وأنتنظر إليه باعتباره نتاج الوعي البشري في التاريخ والمجتمع. ومن ثم يجب التأصيل لوعي بالتراث يفيدمن العناصر الحية فيه، ويدرس علاقته التاريخية بقضايا الماضيفي ضوء القضايا والمشكلات والأسئلة التي يطرحها الحاضر.
ورأت إن الإفادة من التراث وتوظيفه في الفضاء الروائيليس انتصارا للذات القومية وتأكيد على الهوية الثقافية فحسب، بل للبحث عن مشتركات ثقافية بين الماضي الغابر الذي يمثله هذا التراث والحاضر الآني الذي يعيشه المبدع في لحظات إبداعه الروائي، ومن ثم الوصول إلى مستقبل أكثر سواء لا يضع الإنسان العربي في صراع هوياتي يشتت انتباهه ويمنعه من أن يعيش راهنه، ومن ثم يعطله عن أن يتطلع لمستقبله.إذن يجب دراسة التراث بأدوات معرفية معاصرة تفيد من المناهج الحداثية، وتتمكن قراءة التفاعلات النصية التي يحدثها هذا التراث في النص الروائي الماثل، كما تتمكن من قراءة التراث مع مراعاة الأنساق الثقافية التي أنتجته.ومن ثم لا يجب أن نرىالتراث مضادا للحداثة، وأن الحداثة لا تقف حائلا بين الإفادة منه واسترفاده وتوظيفه دون أن نقع في غواية النص وتقديسه.
في ضوء رؤيتها التي شملت العديد من المحاور/ الفصول مثل: التعالق النصي بين الخطاب الروائيوالخطاب الصوفي، وحوار النصوص الدينية في الرواية، مزالق استرفاد التاريخ في الرواية العربية، التفاعلات النصية بين التراث الشفهي والرواية، جماليات اللغة المحكية، حللتصالحعددا من الروايات التي اشتغلت على التراث الصوفي خاصة والديني عامة والتاريخي والشفهي منها:”رمل الماية” لواسيني الأعرج، و”حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” لعز الدين جلاوجي، و”ملاك الفرصة الأخيرة” لسعيد نوح، “تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب” لمجيد طوبيا، و”تغريبة أحمد الحجري” لعبد الواحد براهم، “دروز بلجراد” لربيع جابر، “ظل الأفعى” ليوسف زيدان، و”كتاب التجليات” لجمال الغيطاني، و”مأساة واق الواق” لمحمد محمود الزبيري، و”جبل الطير” لعمار علي حسن، و”كيميا” لوليد علاء الدين، و”وجدتك في هذا الأرخبيل” لمحمد السرغيني، و”الحجاب” لحسن نجمي، ورواية” مجنون الحكم” لبنسالمحميش، ورواية “جنوب الروح” لمحمد الأشعري.
وأكدت أن التفاعلات النصية التيتنتهجها بعض الأعمال الروائية العربية تضع المتلقي أمام تقاطعات دينامية بين خطابي التاريخ والمعرفة. فالرواية الحداثية والمعاصرة حايثت سؤال الوعي لدى الإنسانية، في تعالقها بالماضي والتراث، بالحاضر والواقع، بالمستقبل والأفق. لكن استصدار هذه التقاطعات يستلزم وعيا روائيا يتمثل جيدا خلفيات الارتكان إلى المعرفة بوصفها مادةتتخلل الفضاء السردي مع المتخيل الروائي لتصل إلى الإجابة عن السؤال المعرفي والسؤال الجمالي في آن واحد. إن التراث يشمل: التاريخ الرسمي وما كتبته الجماعة الشعبية عن نفسها في فترة زمنية ماوتاريخها الاجتماعي، والتراث الشعبي غير المادي الذي أنتجته هذه الجماعة من عادات وتقاليد وأمثال وحكايات وسرديات تميز هويتها الثقافية، كذلك التراث الديني والصوفي الذي يمثل جزءا هاما من وعي الجماعة الشعبية بذاتها.
وأشارت صالح إلى أن اللغة الروائية التي تتمثل الخطاب الصوفيتتسم بالإشراقات الشعرية؛ كي ما تحمل الرؤيا الصّوفية، كما تتميز رؤية العالم لدى الروائي الذي يتمثل التجربة الصوفية بالصفاء الروحي والرؤية المتسامحة مع جميع المخلوقات.كما يعتمد الفعل الصوفي في الرواية على لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحاني عجائبي، وكأنها رحلة معراجية سردية يعيشها السارد وبقية الشخصيات.لكن قد يحدث أن يتماهى الروائي في لغة الكشف الصوفية حتى أننا لا نكاد نفرق بين حديث الشخصية الروائية، وحديث الأقطاب الصوفية، فهي معادلة شديدة التعقيد: أن نحافظ في النهاية على سمة التخييل الروائي دون أن نتماهى مع لغة التصوف.
وتابعت أن سؤال الزمن في الرواية التي تتخذ من التجربة الصوفية معينا تمتح منه يمثل إشكالية جمالية، فالزمن في هذه الحالة يصبح زمنا أسطوريا نفسيا وليسواقعيا؛ لأن الروائي الحداثي يجد نفسه في مآزق وجودية وقلق وصراعات نفسية، فيصبح الرجوع للتراث الصوفي رؤية جمالية وثقافية يضفر بها نصه السردي.لا يخضع الزمن الصوفي لعلائق الزمان والمكان (الكرونوتوب) بقدر ما يخضع لطبيعة التجربة الصوفية.
وكشفت أن أن الدين يشكل رافدا تراثيا ثَرّا في الاشتغال النصوصي في الرواية،سواء كان من الأديان الإبراهيمية أو الأديان الوضعية القديمة. لقد روعى المبدعون المعاصرون أهمية ما هو ديني للتعبير عن رؤيتهم لفلسفة الوجود، كما استلهموا الشخصيات التراثية الدينية للتعبير عن رؤية العالم وإقامة جدل درامي من خلال توظيف هذه الشخصيات.قد يتحاور نص ديني أو أكثر في الرواية من أجل إحداث جدل درامي فكري في الفضاء السردي.
وأضافت أن الساردفي الرواية التي تفيد من النصوص التاريخية هو مؤرخ من نوعٍ خاص يعتني بالثغرات والفجوات والهوامش المنسية والزوايا المعتمة التي تتجاهلها في الغالبالكتابات التاريخية التقليدية. إن السارد في الرواية التي تعتمد على التاريخ، تستلهمه يقوم بمحاولة لملء وترميمالثغرات والفجوات التي يهملها التاريخي الرسمي، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، فماذا عن المنهزمين، المهمشين؟ من يكتب سردياتهم؟ إنه الروائي الذي يبرزالهوامش المنسية، ويضيء المناطق المعتمة بواسطة الفن. والرواية حينما تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المعبر الذي تقدم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصودا لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية. والروائي لا يكتب تاريخا، بل يوظف بعض أحداث التاريخ التي يرى أنها يمكن أن تكون عناصر فاعلة في نصه الروائي. ويهدف الروائي إعادة توظيف التاريخ عبر فضاء نصي لمتخيل سردي تتداخل فيه الأحداث والشخصيات التاريخية الواقعية مع المتخيلة، مع الوعي بأهميةتحليل الخطاب التاريخي ونقده.
ورأت صالح أن إلحاح المدونة الروائية العربية على التعالق النصي بين التاريخ والمتخيل السردي يؤكد وعي الروائي بأن الحاضر، ومن ثم المستقبل هما ابنان شرعيان للماضي، ومن يجيد قراءة الماضي، ويساءله إنما يمكن له أن يصنع حاضرا ومستقبلا صالحا للعيش الإنساني فيه.
إن إفادة الروائي من التراث الشفهي، ونقله إلى نصه السردي؛ ينتصر لمعارف شفهية تعتبر منتجات ثقافية مركبة أنتجتها الجماعة الشعبية. إن اشتغال آليات التراث الشفهي في الرواية يُمكِّن الروائي من أن يملأالفراغات التي قد توجد في التاريخ المكتوب، و تمكنه من أن يجمع بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية. والروائي يمكن له أن يحفر عميقا في التراث الشفهي الذي يمثل اللاوعي الجمعي لأمة من الأمم. وأيضا يمكن أن يقيمحوارا مع الذات الجمعية، لتبرز هوية هذه الذات عبر الحفر في المأثورات والتقاليد الشعبية والممارسات المجتمعية والطقوس الدينية والسير والحكايات والأساطيرالشعبية.ومن جانب آخر الروائي يساءل النصوص الشعبية من أجل الحفاظ على صورة الذات القومية من ناحية، والبحث عن المشترك الإنساني في ميراثها والكشف عن المسكوت عنه في تاريخها وربما يسهم ذلك في التخلص من العناصر السلبية في الميراث الجمعي لهذه الذات إقامة لجسور تواصل بين هذه الذات وما هومشترك إنساني مع الحاضر ومعطياته.
وأوضحت أن الروائي يتحول إلى محلل لخطاب التراث الشعبي، ويعمل على تفكيك شفراته وسد ثغراته المسكوت عنها. وتسهم الظروف السياسية والاجتماعية في تسييد لغة أو لهجة، فالطبقة الاجتماعية القوية تفرض لهجتها أو لغتها، بل وتسهم في إماتة لغة ما وإحياء أخرى. إن الصراع بين اللغة الفصحى واللهجات المحكية في السرد الروائي إنما هو صراع بين المركز والهامش، المركز يفرض لغته، والهامش يتنازل عن لغته لحساب المركز.
وخلصت صالح إلى أن ما بعد الحداثة وطروحتها الفكرية تنتصر للهامش على حساب المركز؛ لذا احتفى السرد الجديد، أو ما يطلق عليه بعض النقاد سرد ما بعد الحداثة بالهامش ولغته وأدخلها المدونة الروائية، بل جعلها لغة للتشكيل السردي، ولم يكتف بها لغة للحوار بين الشخصيات.