وارد بدر السالم مفكّكاً مرايا الجسد…
يفتتح وارد بدر السالم كتابه «الجسد بين الحب والجنس» (العرّاب- الصحيفة العربية) بقراءة الجسد المنتهك كأقصى حالات الإذلال، ثم يقشّر طبقات الجسد تبعاً لتصورات تاريخية متباينة، بمراجعة 30 كتاباً اشتغل أصحابها على الجسد بتحولاته الأسطورية والدينية والشبقية. في الجسد المنتهك، تحضر صور سجناء سجن أبو غريب بوصفها تمثيلاً للجسد الأسير، وفقاً لرؤية الباحثة التونسية رجاء بنحجل في كتابها «الشهادة بالصورة». إذ يتحول الجسد الشرقي المغتصب إلى عدو صاحبه بإشهاره على الملأ في سرديات بصرية متعسّفة كلحظة انتصار على فكرة الجسد الشرقي وفحولته وانهيار ذكورته الشرقية والإسلامية.
على المقلب الآخر، نجد أن الجسد الفردوسي كان صنيعة الأسطورة الذكورية التي عملت على كنس الأفكار الأنثوية واختزالها إلى مجرد «جماعات صامتة»، قبل أن تستعيد الأنثى كيانها المنهوب باستخدام «الجسد المسلّح» بكل أنواع الإغراء والقوى السحرية الغامضة. لكن «تلال الفردوس» ستتوارى تاريخياً تحت وطأة السلطة الذكورية وعجز الأنثى في مواجهة العنف الجسدي. هناك أيضاً «الجسد المكشوف/ المحجوب»، الجسد الذي يضيء بعريه، والجسد المعتم باللباس الفضفاض، وكأنما النساء «يفرِغنَ أجسادهن» مما يعيق حريته. وسوف تلعب الشبكة الأخلاقية المعقّدة في تحرير أو حجب أجزاء من الجسد بوصفها مناطق إثارة وغريزة، وهو ما وظفته الماكينات الإعلامية بقوة في مواجهة صريحة مع المحرمات الدينية لجهة الحشمة وستر العورة، فالملابس تشكّل الجسد والاختلاف بين الجنسين «من خيط بسيط إلى بزّة بثلاث قطع» بحسب ما أرّخته مينيكه شيبر. وتشير مريم وحيد في كتابها «الجسد والسياسة» إلى أن لغة الجسد سابقة على لغة اللفظ، ما يعني أن سيميائيات الجسد وأنظمتها الدلالية، تفسّر وتستنتج المعاني من دون لغة، وتالياً يمكن «قراءة الجسد كنصّ» على خلفية معطيات الأجساد الثورية في مصر أثناء ثورة 25 يناير. فنحن إذاً، إزاء جسد بإمضاء سياسي، انتقل من سيطرة الدين إلى سيطرة السلطة.
من جهته، يرصد محمد عرب صاصيلا في «أنثروبولوجيا الجسد والحداثة» الجسد الشعبي وجسد القديس، «ذلك أن لكل جسد إمكانياته في التعبير عنه، فالجسد الشعبي المحكوم بالتقاليد والأعراف الرسمية والطقوس الدينية الخاصة به، ينفلت أثناء الكرنفالات المناسباتية، ويتحرّر مما يكبّله، ويهزأ من كل ما يحمله من موروث ديني وطقسي ضاغط»، فيما يمتاز الجسد المقدّس بفردانيته، وأناقته، ونزوعه إلى العزلة الروحية، وتبجيل رفاته نظراً إلى قدراتها الخارقة. وهو ما يقودنا إلى الجسد المهزوم بفعل الشيخوخة وصولاً إلى انطفائه الأخير. لكن ماذا بخصوص «الجسد المتألم»؟ تستعرض إلين سكاري قضية التعذيب البشري وأصوات الألم التي تخرج عن سياق اللغة كتعبير عن الجسد في آلامه القصوى، فالألم «يهدم اللغة» ويقوضها أو يفككها. ومن ناحية أخرى، سنجد فرقاً بين عبارتي «جسدي يؤلمني»، و«جسدي يتألم»، فالأولى تقع خارج حدود غرفة التعذيب، والثانية داخلها. وفي الحالتين، ثمة غياب للوعي. كأن الجسد بمجمله «يحمل عبء بشريته عبر تاريخيته الطويلة، فهو جسد تاريخي حمل معه الطقوس والنذور والأديان والثقافات، كما أنّه جسد جغرافي، وجسد ثقافي كونه ترجم سيرة عصره».
يتناول صاحب «شظية في مكان حسّاس» في الجزء الثاني من كتابه العشق الجنسي للجسد، والمسكوت عنه في النصوص المقدّسة، والمسافة الفاصلة بين المقدّس الديني والمدنّس الجنسي. وهو ما عالجته زهرة ثابت في أطروحتها «العشق في النصوص المقدّسة» بدراسة طريقة القص والسرد والروي ودلالات اللذّة وخطاب العشق الملتبس. وفي «أنثروبولوجيا الطعام والجسد»، تربط كارول م. كونيهان، نوع الطعام بالنسق الاجتماعي والطبقي، ذلك أنّ الطعام والجنس متداخلان مجازياً، فيما تختلف النظرة الشهوانية للجسد لجهة النحافة والسمنة بين جغرافيا وأخرى تبعاً لنوعية الطعام ودلالاته الرمزية والبيولوجية. يكتفي جاك ليك هينيج بقراءة «تاريخ الأرداف» ملخّصاً تاريخ الجسد أنثروبولوجياً بوصفه «حقول أقواس غير عادية»، فهو يستعير لوحات ومنحوتات ومخطوطات في دراسات جمالية تتكئ في جزء منها على رسومات رافاييل، وماتيس، وبيكاسو، وغزليات الأدب الفرنسي في القرن السادس عشر، وكتابات بلزاك عن «الالتواء الفاسق»، ونيكي دي سان (العالم مستدير. العالم نهد).
يعقّب وارد بدر السالم على مصطلح «عاصفة الردف»، قائلاً: «الردف عاصمة الجسد كلّه، فالعاصفة موضعية مهما اتسعت، والعاصمة هي المركز الأخير لكل بلاد». وفي مطرح آخر، يقودنا دينيس دبروغمون إلى إشكالية الحب الصوفي عن طريق تحليل الأساطير بقصد استخراج المعنى المضمر، وتالياً فإن التصوّف ما هو إلا أسطورة ذات أبعاد حسيّة وغريزية، وهو بذلك ينسف حالة الارتقاء السماوي نحو ما هو أرضي مدنّس، و«أن المغرمين هم صوفيون من دون أن يعرفوا هذا». ويقتحم باسكال كينيار في كتابه «الجنس والفزع» فضاء الحياة البشرية بوصفها «غابة جسدية شهوية» منذ «إيروس» إله الحب والجنس في الميثولوجيا الإغريقية، محاولاً تفكيك منظومة الجسد وعناصرها عبر الأسطورة بآليات سردية متسلسلة بما يشبه الحفريات لاكتشاف ما هو مسكوت عنه في تاريخ البشرية في ما يتعلق بالجنس والرغبة والفزع والافتتان، متنقلاً من لوحة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر للتأكيد على تلازم الرغبة الحسيّة مع الخوف استناداً إلى عدد لا يحصى من الرسوم والتماثيل العارية. فهو يقول: «الشيء المخبّأ هو السّر». ويخلص بالقول: «في القوانين القديمة، المتعة دخيلة دوماً، لا تميّز بين الخوف والبهجة. أمّا الفزع، فهو أول هدية يقدّمها الجمال وفقاً لما يقوله أفلاطون».
يعدد صاحب «عذراء سنجار» أنواعاً من الأجساد التي تعكس مرايا مختلفة لجهة الضوء والعتمة مثل الجسد الشفّاف، والشعبي، والمديني، والعنيف، والمروّض، والمدنّس، والمقموع، والمستور، والمكشوف، ما يشكّل أنطولوجيا معرفية دسمة، ومعجماً للجسد بكل أحواله وتبدلاته التاريخية والحسيّة.