واشنطن – هافانا ونظرية بناء الجسور

عشرة رؤساء أمريكان، وخمسة عقود ونيّف من الزمان وكوبا تعاني الحصار الذي فرضته واشنطن عليها، يضاف إلى ذلك 30 محاولة اغتيال للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، لكنها لم تنجح جميعها في إطاحة النظام الشيوعي في كوبا، فما الذي يريد تجريبه باراك أوباما الرئيس الأمريكي الأسود ذو الأصول الإفريقية من إعلانه سياسة انفتاح وتطبيع للعلاقات مع كوبا؟ وماذا تريد كوبا بعد ذلك من اتفاقها مع الولايات المتحدة لإعادة العلاقات؟

لعلّ أول توضيح لدفع أي شكوك جاءت على لسان راؤول كاسترو شقيق فيديل كاسترو ورئيس الدولة حالياً منذ أن تنحّى الأخير عن مسؤولياته في العام ،2008 وذلك حين قال إن على الرئيس الأمريكي عدم الغرق في الأوهام، لأن الشيوعية ستظل النظام السائد في كوبا، وذلك ردّاً على توصيفه النظام السياسي في كوبا: بأنه قمعي وسيتغيّر في نهاية المطاف.

وكان فيديل كاسترو قد علّق على كلام أوباما بقوله: إننا لا نطلب من الولايات المتحدة أن تغيّر نظامها السياسي، ولذلك نطالبها باحترام نظامنا أيضاً، بمعنى أن كوبا لن تتخلى عن تاريخها النضالي وأفكارها التي عملت من أجلها طويلاً، مقابل إعادة العلاقات مع واشنطن .
جدير بالذكر أن ثمة أسباباً موضوعية وأخرى ذاتية لقرار الرئيس الأمريكي أوباما بالانفتاح، مثلما هو قرار هافانا حيال رغبة واشنطن، دون أن يعني ذلك تخلّي الولايات المتحدة عن هدف إطاحة النظام الكوبي، لكنها حسبما يبدو عادت لنظرية بناء الجسور، التي سبق للرئيس جون كيندي أن اتبعها، ومن بعده الرئيسان جونسون ونيكسون، وتعتمد هذه النظرية التي قام بصياغتها “تروست الأدمغة” الذي يعمل بمعيّة الرؤساء على مدّ جسور سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية إلى الدول الاشتراكية السابقة، لعبور البضائع والسلع والأفكار ونمط الحياة الأمريكي والغربي بهدف تحطيمها من الداخل بعد فشل إطاحتها من الخارج . وإذا كانت تلك الأنظمة قد بدت منيعة ومحصّنة من الخارج، لكنها كشفت عن هشاشتها وضعفها الداخلي، وهو ما كان قد قال به المفكر الفرنسي جان بول سارتر في نقده للأنظمة الاشتراكية، بسبب شحّ الحرّيات والانغلاق، وهو الأمر الذي قد ينطبق على كوبا حسب واشنطن، على الرغم من صمودها لأكثر من خمسة عقود من الزمان، فالجزيرة التي كانت حديقة خلفية لكبار الرأسماليين الأمريكان يوماً ما، استطاعت أن تصمد رغم قساوة الظروف والفداحات والحرمانات بوجه أعتى وأقوى دولة في العالم والأشد شراسة.

ولو تمكّنت كوبا اليوم وفي المرحلة الجديدة من توسيع دائرة الحرّيات العامة والخاصة والإقرار بالتعددية والتنوّع ودخول عالم الحداثة، فإنها ستتمكّن من الصمود ليس لخمسة عقود من الزمان، بل لخمسة قرون أخرى، لأن قوتها ستكون في الحرية والمواطنة والتعددية والتنمية المستدامة، خصوصاً وإن الحداثة حاجة لا يمكن تجاهلها أو إدارة الظهر إليها، إذْ إنها مع العوامل الأخرى ستوفّر اللحاق بالركب الحضاري العالمي، خصوصاً باقترانها بالعقلانية والديمقراطية والعلمانية والتقدم، وقد سبق أن نوّهت إليه في كتابي “كوبا- الحلم الغامض” الصادر في العام ،2009 إضافة إلى فضائل النظام الاشتراكي ذاته، خصوصاً مجانية التعليم والصحة وتوفّر فرص العمل والضمان الاجتماعي والحق في التمتع بالفنون والآداب والجمال وغيرها.

السبب الأول للانفتاح الأمريكي يعود إلى فشل أوباما في الانتخابات النصفية للكونغرس، الأمر الذي دفعه لكسب جالية أمريكا اللاتينية التي تربو على خمسين مليوناً بما يعادل نحو خُمس سكان الولايات المتحدة إذا افترضنا أن عدد السكان نحو 320 مليون نسمة . ولا شكّ أن عدد المهاجرين غير الشرعيين يزيد 12 مليون إنسان وأن غالبيتهم من الأمريكان اللاتينيين، وأن هناك نحو خمسة ملايين مهيأون للحصول على الجنسية الأمريكية، ولذلك فإن إعادة العلاقات مع كوبا تساعد على كسب هؤلاء الذين يعارض الجمهوريون منحهم الحق في الإقامة الشرعية.

أما السبب الثاني فهو يعود إلى فشل سياسة الحصار والعقوبات المفروضة على كوبا، وكان الفاتيكان قد كسر الجمود من خلال زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى هافانا، وتعهدت الأخيرة بالانفتاح على الكنيسة وإعادة فتح وترميم بعض الكنائس، التي أخذت تستقبل أعداداً من الزوار . وكان البابا مثل الكثير من البلدان في الأمم المتحدة وخارجها، بما فيها كندا حليفة الولايات المتحدة، قد انتقد سياسة الحصار الاقتصادي الأمريكي ضد كوبا ودعا لإلغائها لأنها غير شرعية، وهي السياسة التي استمرت عليها واشنطن منذ عهد الرئيس جون كيندي منذ العام 1960 وعشية أزمة خليج الخنازير بين موسكو وواشنطن العام 1961 .

أما السبب الثالث فهو يرتبط بالأزمة المالية والاقتصادية التي تعرّضت لها الولايات المتحدة منذ العام 2008 والتي لا تزال مستمرة، وأدت إلى انهيار مصارف عملاقة وشركات تأمين كبرى، ودفعت أعداداً واسعة إلى البطالة .

ويعود السبب الرابع إلى اتساع رقعة الدول الأمريكية اللاتينية التي أحرز فيها اليسار نجاحاً في الانتخابات وتباعدها عن محور واشنطن، الأمر الذي دفع الإدارة الأمريكية لاختيار هذا الطريق البراغماتي، للتخفيف عن غلواء سياستها العدوانية، دون نسيان هدفها الأساسي وهو إطاحة النظام الكوبي والأنظمة التي تأثرت فيه، وهو ما عملت عليه طوال العقد المنصرم إزاء نظام فنزويلا والرئيس الراحل شافيز .

ويكمن السبب الخامس في فشل سياسات واشنطن الشرق أوسطية، سواء بخصوص دعم “إسرائيل” لاسيّما في عدوانها المتكرر على الأمة العربية، أو في عدم إيجاد حل عادل ومناسب للقضية الفلسطينية، إضافة إلى احتلال العراق وتبعات ذلك، سياسياً ومالياً وبشرياً وأخلاقياً . وعلى الجانب الآخر كان انخفاض أسعار النفط وراء استعداد كوبا لإعادة العلاقات، فقد كان لانهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات وتوقف موسكو عن تزويد كوبا بالوقود، سبباً في أزمة كوبية طاحنة كادت أن تطيح النظام، وقد ظلّت هافانا وأحياء منها حتى الآن تعاني الظلام ونقص الكهرباء والوقود، وقد استعان كاسترو بالرئيس ياسر عرفات طالباً مساعدته، وهو ما بادر إليه حين قام بتأمين باخرتين على جناح السرعة تحملان النفط حيث تم شراؤهما وهما في عرض البحر وإرسالهما إلى كوبا . ولهذا فإن انخفاض أسعار النفط اليوم وحرمان فنزويلا من نحو نصف عائداتها سينعكس سلباً على هافانا، حتى وإن استمر الرئيس نيكولاس مادورو خلفاً للرئيس هوغو تشافيز في التزاماته إزاء كوبا، الأمر لا بدّ من إيجاد مخارج للتخفيف عنه، وقد تكون العلاقة مع واشنطن وإلغاء الحصار إحداها . .

لعلّ هافانا تكون قد قرأت هذه اللوحة المعقدة، ولذلك لم يكن ممكناً الاستمرار في السياسة ذاتها التي قادت إلى شد الأحزمة على البطون، وهي السياسة التي سارت عليها كوبا وطبعت علاقاتها مع واشنطن خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها في إطار الصراع الأيديولوجي، الأمر الذي دفع إلى المزيد من المركزية الشديدة للنظام وشحّ الحريات والوقوف موقفاً سلبياً من الحداثة وملحقاتها، وهو الأمر الذي حاول راؤول كاسترو التخفيف عنه بالسماح لشركات الكمبيوتر والإنترنت والهواتف النقالة والشركات السياحية وغيرها من الدخول إلى البلاد منذ تسلّمه مقاليد الأمور.

لم تعد كوبا النظام “محميّة” بفعل تحالفاتها الخارجية، كما كانت في العام 1961 من جانب الاتحاد السوفييتي مثلاً، حين انفجرت أزمة خليج الخنازير في 16 ابريل/نيسان 1961 التي حاولت واشنطن إنزال مرتزقتها على السواحل الكوبية، الذين تعرضوا إلى التصفية وانهارت العملية القرصنية، لكن التهديدات النووية الأمريكية كانت جاهزة لرفع وتفكيك الصواريخ السوفييتية وقواعدها، وقد اشترط الاتحاد السوفييتي حينها ضمان أمن كوبا ورفع الصواريخ الأمريكية والتابعة لحلف الناتو على حدوده التركية، وهكذا تمت الصفقة وبقيت كوبا صامدة وازداد نظامها راديكالية.

ويعود فشل محاولات إسقاط النظام الكوبي إلى الالتفاف الشعبي الواسع حوله حتى الآن، إضافة إلى شخصية كاسترو الكارزمية، وكشفه لجميع المحاولات لاغتياله، الأمر الذي تريد واشنطن معالجته على طريقتها الخاصة بالتغلغل من خلال تغيير تكتيكاتها بالانفتاح وبناء الجسور، وتأمل هذه المرّة أن تطيح النظام الشيوعي من داخله، خصوصاً بعد فشل سياسة المقاطعة والحصار، لكن الأمر يحتاج إلى وجه آخر للصمود وهو تعزيز الحرّيات ودخول عالم الحداثة، دون أن يعني الأمر الاستجابة للطريقة الأمريكية بتعميم نمط الحياة الثقافية من خلال الجينز والهمبرغر والكوكا كولا، بل عبر عولمة الحقوق والحريات وعولمة الثقافة والتكنولوجيا، فذلكم هو السبيل لاستمرار صمود كوبا.

لقد واجهت كوبا في تاريخها المعاصر منذ القرن ونصف القرن الماضيين سبع حروب كبرى، سواءً بمقاومة الاستعمار الإسباني أو الحرب الأهلية أو حرب الثورة المضادة أو الحرب الاقتصادية والحصار الأمريكي، واليوم يتوقف مستقبل كوبا السياسي على مواجهة التحدّيات الجديدة المتمثلة في وسائل الحرب الناعمة.

صحيفة الخليج الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى