نوافذ

وداعاً .. ياصديقي

صديقي..

ـ 1 ـ

كان وجه بندر عبد الحميد في الكفن هادئاً وكأنه نائم.

ومن مجموع كتاب وشعراء وسينمائيي سورية ودعه ثلاثة إلى “مقبرة الغرباء”، التي كلما ذكرت أمامي، أقول: ذات يوم سأذهب مع أحدهم وأعرف مبرر هذا الاسم الموجع…مقبرة الغرباء !

مساحة شاسعة من الأرض. مهندسة وظيفياً كممرات ومدافن في العمق تحت الأرض. يؤخذ الميت ويسلم إلى رجل في هذه الحفر الاسمنتية، المعدة سلفاً. يترك هناك ثم يهال عليه اتراب…

ويصبح الميت الغريب غريباً برقم ( 2712 الجزيرة هاء)… في هذا العنوان صار يسكن بندر عبد الحميد… صار بيته الجديد الأبدي ، والمغلق.

بندر يمكن أن يكتب عنه مئات الصفحات، كشاعر وكاتب وصديق، ويبقى، مهما انكتب عنه، مجهولاً، أو غامضاً، أو ثمة نقص في التعرف إليه والتعريف به. بندر يجب أن يُعاش.

بيته في شارع العابد منذ خمسين سنة مفتوح الباب. دخله مئات الكتاب والصحفيين والسينمائيين والشعراء واللاجئين من مختلف الأصناف والأصقاع. وكانت مائدة بندر خليطاً من الطعام والشراب والموسيقى والكلام والحوار، والخصومات… ومع ذلك وجد بندر الوقت لكتابة 8 مجموعات شعرية، ورواية وعدة كتب أخرى من بينها واحد من أجمل الكتب عن نجمات السينما العالمية بعنوان: “ساحرات الشاشة” (فن وحب وحرية).

ـ 2 ـ

المفارقة أن بندر الذي امتلأت حياته بالأصدقاء مات ممدداً على الأرض منذ 16 ساعة في ظلام ليل 17 شباط 2020 ولم يدر به أحد. والباب الذي لا يغلق، إلا احياناً، كسرته ابنته بمساعدة الجيران. لتدخل وتواجه المفاجأة…هذا النوع من الموت الصامت.

ثمة مفارقة أخرى… لم يودعه سوى ثلاثة أشخاص من شعراء وكتاب سورية. وأحد موظفي اتحاد الكتاب العرب يحمل أصغر باقة ورد في العالم. مع شريط التنويه بالاتحاد مترحماً على أحد أعضائه. وزارة الثقافة التي عمل فيها ربع قرن لم تكترث. في النعوة برزت عشيرة الجبور.

ـ 3 ـ

بندر عبد الحميد يعتبر واحداً من أجمل شعراء السبعينات. تجربته لم تحظ باهتمام، ككل التجارب التي لا يحتفل بها أحد إن لم تكن برعاية الدولة ومؤسساتها الثقافية.

ـ 4 ـ

في السنة الماضية كانت هناك مؤشرات تدل على توتر بندر الصامت، ذلك التوتر الذي لا لغة له سوى اهتزازات اليد وشحوب الوجه، وبعض ميلان العمود الفقري.

كان يتفرج أكثر مما يشارك. وإذا شارك في حوار أو تداعيات الجلساء… كان يأتي إلى المنطقة الميتة في الحديث ويكون صوته كأنه قادم من أقاليم الموت…كان يشارك كميت لم تنطفىء شعلته بعد.

بندر رحل فور انتهاء الدافع الجمالي للحياة. فورالاعتقاد الأخير الأكيد بأن ما لا يطاق أصبح هو السائد والمبتذل واليومي… نوع من إطفاء القنديل في الظلمة.

ـ 5 ـ

يوم وفاته لم أعرف، وحتى الآن لا أعرف، ما أقول له، أو لي، أو لخمسين سنة من الغبار، ووعثاء الأحلام. والحروب والهزائم.

كتبت:

تتكون الشام من آلاف الأشياء الجميلة.

تتكون الشام من آلاف الأشخاص الجميلين.

تتكون الشام من آلاف البيوت الكريمة…

بموت بندر عبد الحميد… نقصت الشام.

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى