وديع سعادة.. الشعر متحف الحياة المفقودة (شوقي بزيع)

 

 
شوقي بزيع


منذ باكورته الشعرية «ليس للمساء إخوة»، مروراً بأعمال أخرى من مثل «بسبب غيمة على الأرجح» و«رتق الهواء»، ووصولاً إلى عمله الأخير «قل للعابر أن يعود، نسي هنا ظله» استطاع الشاعر اللبناني وديع سعادة أن يفرض مكانة له خاصة داخل جغرافيا قصيدة النثر العربية، وان ينأى، مع قلة قليلة من مجايليه والمتأخرين عنه، بهذه القصيدة عن الترهل والابتذال والاستسهال. وقد لا يكون مرد ذلك عائداً إلى قوة الموهبة وحدها بل إلى إيمان شبه صوفي بقدرة الشعر على تخليص العالم من زيفه وفساده السريع، وعلى تحويل اللغة إلى علاج حقيقي للبشر المتصدعين في صميمهم بفعل النسيان وتراكم الخسارات وتحلل الأماكن وخلبية الزمن. ولعل فكرة الفقدان هي النقطة المحورية في كتابة سعادة، الذي لشدة تعلقه بالماضي يكاد يحصر همه الأساسي في منعه من الانـــزلاق الكامل إلى وهدة العدم وإعادة رتق عناصره المهترئة بما يسعف الشاعر من الأخيلة والكلمات.
لا ينشغل وديع سعادة بهذا المعنى بتأليف القصيدة بقدر ما ينشغل بتأليف الحياة بحد ذاتها. وإذا كانت هذه الميزة تنسحب على معظم أعماله فإنها تبدو في مجموعته الأخيرة المقسمة إلى عنوانين رئيسيين: «قل للعابر أن يعود/ نسي هنا ظله» و«من أخذ النظرة التي تركتها عند الباب» تخومها القصوى بحيث تصبح كل قصيدة معادلاً لحجر رمزي من حجارة الحياة المتداعية، وتصبح المجموعة برمتها نوعاً من إعادة تركيب شعرية للعبة «الدومينو» التي آلت حجارتها إلى التبعثر والانفراط. صحيح أن الحنين إلى الحياة المتصرمة ليس ميزة خاصة بصاحب «نص الغياب» إلا أن قلة قليلة من الشعراء هي التي استطاعت نقل هذا الموضوع من حيزه العاطفي والميلودرامي ليصبح الماضي موجوداً في الحاضر والآني متحداً بالأبدي، وليصبح الشعر انتزاعاً للبرهة المنقضية من أشداق العدم.

ردم الفجوة

تختزل قصيدة «الطريق» التي يستهل بها وديع سعادة مجموعته الأخيرة الكثير من مشروعه الشعري القائم على ردم الفجوة بين الأنا والآخر، كما بين الإنسان والعالم من جهة وعلى استبعاد أي فكرة للخلاص خارج النفس المتعطشة للحب من جهة أخرى. ورغم أن القصيدة ـ الاستهلال تذكِّر بتجارب سابقة اتخذت من فكرة النبي أو الرائي والحكيم المخلص محوراً لها، كما كان حال جبران في النبي وميخائيل نعيمة في مرداد، إلا أن بطل وديع يقع في الخانة المضادة من أبطال أسلافه المماثلين لأنه بطل مؤلف من شتات الأشياء ومتناثر بين الخيارات. فهو لم يكن المصطفى بل «المرتجف في الريح»، وهو الذي لم يجئ ليكمل ولا لينقض لأنه هو نفسه النقصان والأنقاض، على حد قول الشاعر الحرفي. لكن الشخص الذي يرتدي الشاعر قناعه ليس قريباً بالمقابل من زارادشت نيتشه، الممتلئ قوة وجبروتاً والهازئ حتى من الحياة نفسها، بل هو الهوية المبعثرة بين الوجودات والخلائط والأمكنة، وهو الساعي أبداً إلى الاتحاد بروح العالم كما بجزئياته وتناقضاته الكثيرة، بما يجعله أقرب إلى شخصية بوذا المتماهية مع البشر في تمزقاتهم ومع الطبيعة في تمظهراتها المتغايرة: «قال أنا الكائن هناك/ وأنا المنادي هناك/ وأنا المجيب والحاني/ والغصن المنكسر أمامي كان ضلعاً مني/ والطير الميت المرتطم بي كان بعض حياتي/ كل الغصون في الشجر هي ضلوعي أيضاً/ والطيور على الأرض وفي الجو إخوتي/ والأحجار هنا وهناك/ عظام لي لم يكتمل نموها».
يسمي وديع سعادة بطله ـ قناعه الهاب، من الهبوب، والمنحرف الذي يخرج عن قيم المجتمع السائد ويعيد تسمية الأشياء وتعريفها انطلاقاً من نزوعه غير اليقيني، كما من قابلية الحقيقة نفسها للنزوح عن وجودها الأصلي. لا حقيقة عند الشاعر سوى انتفاء الثبات عن الموجودات وخضوعها الدائم لمنطق التحول والصيرورة. كل شيء عنده يؤول إلى حفنة من دخان. ومع ذلك فليس ثمة من وجود للعدم، فحتى الدخان نفسه يحمل في داخله خصائص الأشجار التي احترقت، والبشر الذين وئدوا في الحروب الدامية، والعيون التي مات أصحابها أو شاخت أجسادهم وظل بريقها عالقاً في محاجر الذكرى وغابة النظرات البائدة.
الشعر هو متحف الحياة المفقودة عند وديع سعادة. فهو وحده الذي يعصم الوجودات الهاربة من الاضمحلال ويوفر للإنسان المقتلع من مكانه الزاد الذي لا يكف عن الاقتيات منه في متاهاته الخالية من المعنى. يدافع وديع بهذا المعنى عن ريفيته الشخصية كما عن ريفية الشعر نفسه. فهو رغم اقتلاعه المبكر من قريته اللبنانية الشمالية شبطين لا يكف عن استعادتها باللغة والحنين، بوصفها فردوسه الأرضي والأسطورة التي تكبر ككرة الثلج كلما ابتعدت في الزمن. الشعر بهذا المعنى هو بدل عن ضائع، وأداة للوصول بين ضفتي الحياة المتباعدتين، وتمرين على التذكر خشية أن يحل النسيان ويطمس معالم الطريق إلى الحياة الحقيقية التي حدثت في الماضي. كأن الشاعر، ودون أن يعلن ذلك بصراحة، يريد أن يدوِّن الأشكال والأحداث والمرئيات والأصوات والروائح كلها خشية الوقوع المفاجئ في بياض الألزهايمر الثلجي الذي يمهد للموت الحقيقي ويسبقه بقليل.

الرؤية الجبرانية

لا فارق في شعر سعادة بين الكائنات الحية والجمادات، أو بين الإنسان وامتداداته في الطبيعة. لا بل لا نكاد نلحظ وجوداً للطبيعة خارج الناظرين إليها والمتحدين بعناصرها. الحجارة نوع من اللحم عند الشاعر، والمياه شكل من أشكال الدم. وهي معادلة تجمع بين الرؤيا المسيحية للوجود، حيث الخبز جسد المسيح والنبيذ دمه القاني، وبين الرؤى الصوفية والحلولية التي تبدأ مع أفلوطين ولا تنتهي عند ابن عربي والصوفيين العرب. فعند وديع «للطريق دقات قلب متعبة/ ورئة ملأى بغبار الدعسات/ وعيون تنظر إلى الماشين عليها وتدمع تحت أقدامهم». والغيوم عنده لا تهبط من السماء بل من العيون. وعنده بيوت قائمة في تموجات الصوت ومقاعد في عروق اليد التي تلوح. لا شيء في هذا الشعر خارج الإنسان وكل ما يحدث يحدث في داخله، من الريح التي تهب والغابات التي تحترق والمدن التي تنهض وتسقط، وصولاً إلى الطوفان نفسه الذي يرتفع مع الدم الغائر ويبحث في العروق البشرية عن «خشب لبناء السفينة». والإنسان هو المنطلق والمصب والرحلة والطريق لذلك فإنه «وضع الطريق في صدره/ ومشى عليها طوال العمر».
هكذا تبدو مجموعة وديع الأخيرة من بعض وجوهها وكأنها تصفية حساب مع النوستالجيا الرومنسية الشخصية التي حكمت علاقته بمسقط رأسه وتحويل الإنسان نفسه إلى وطن. فهو بجسده وخطواته وذاكرته وحواسه الخمس من يحدد الاتجاهات ويرسم الطريق ويعدِّل الخرائط ويزيل الفواصل بين أقاليم الداخل وأقاليم الخارج. تنتقل التجربة هنا إلى حيز الدراما الإنسانية التي يلعب الجميع أدوارهم فوق خشبتها المكتظة، حيث الممثل هو نفسه المشاهد وحيث الإنسان الذي لا يرى طريقاً للخروج من اللعبة لا يجد ما يفعله سوى متابعة الدور حتى النهاية. لذلك ينصح الشاعر بطله الباحث عن طريقة للخروج من المأزق بالقول: «لا تدق على الباب/ امش/ من في الداخل يدق على الباب أيضاً/ ولا أحد يفتح له». ولعل فكرة الحياة ـ المتاهة تتكرر في غير مكان من المجموعة بما يكشف عن عمق المأزق الذي يتخبط البشر داخله، دون قدرة على تبين وجهة صحيحة وسط اللافتــات الكـــثيرة التي ترتفـــع على جنـــبات الطريق مثل دوامـــة مــن الإشــارات المتضاربة.
على أن حرص الشاعر في بداية مجموعته على الانفصال عن الرؤيا الجبرانية المتمثلة بشخصية المصطفى لا ينجح دائماً في إبعاد «الشبهة» الجبرانية عن مشروعه الشعري. ليس فقط من خلال تشابه الظروف بين المنفى الأميركي والمنفى الاسترالي، ولا من خلال اللغة التي تتخفف من فصاحتها وبنيتها المحكمة لمصلحة التعبير التلقائي وبساطة الخطاب الشعري فحسب، بل من خلال الإعلان السيزيفي عن تعذر الوصول بالصخرة إلى قمة الجبل، والتنعم بما يلي القمة من جمال الوجود الملغز. وكما أعلن جبران في نهاية حياته بأن الكلمة التي كان يريد قولها لم يقلها بعد، ولن يقولها بأي حال، فإن وديع سعادة يتجرع الكأس ذاتها والغصة ذاتها ليعلن في قصيدة له: «خطوة واحدة بعد، قال/ لأرى ماذا وراء الجبل/ خطوة واحدة تكفي/ لأنني تقريباً وصلت/ تقريباً سأرى../ خطوة واحدة فقط/ كان عليه أن يمشيها كي يرى». إنها خطوة واحدة بالفعل. ولكنها الخطوة التي لم يتمكن من قطعها أحد من قبل.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى