وصفة لخراب سوريا: استراتيجيّة الحرمان من الموارد

 

تعليقاً على الغارة الأميركية على مواقع في سوريا، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إنّ لديه بيانات عن أنّ أميركا لا تخطّط لمغادرة هذا البلد، وترغب في «تخريبه». وقد سبق للافروف أن اتّهم واشنطن، في مرّات عدّة في عهد دونالد ترامب، بالسعي إلى تقسيم سوريا، وإنشاء كيان انفصالي في شمالها الشرقي، لكنّ تصريحه الأخير يشي باقتناعه بأنّ إدارة جو بايدن مستمرّة بالسياسة ذاتها. صحيح أنّ هذه التصريحات تأتي في سياق التصعيد في مواقف أقطاب الإدارة الجديدة، بدءاً من الرئيس الأميركي نفسه، ضدّ روسيا، وتصنيفها على أنّها تهديد استراتيجي مركزي للولايات المتحدة، وأنّ لافروف لن يفوّت فرصة، كالغارة مثلاً، لمهاجمة السياسة الأميركية، غير أنّ الأمر لا يقف عند هذا الحد. فروسيا، بعد تدخّلها العسكري الحاسم في الحرب السورية، والذي ساهم في تغيير مجراها، باتت معنيّة بمستقبل هذا البلد، وبضمان وحدته الترابية واستعادة دولته لسيادتها على أراضيها. وبطبيعة الحال، فإنّ مثل هذه المقاربة، التي تندرج في سياق عودة روسيا كلاعب من الدرجة الأولى في الشرق الأوسط، تتناقض مع تلك التي سادت في عهد ترامب، والتي كان المشرفون على الملف السوري خلاله يقرّون بأنّ التسبّب بتفكيك سوريا نتيجة لسياساتهم يخدم استراتيجيّتهم العليا. وقد رشحت معلومات من واشنطن، في بدايات هذا الشهر، عن أنّ فريق بايدن شرع في إعادة تقييم السياسة الأميركية حيال سوريا، فيما سبقتها تقارير عن قراءات توصي باتباع توجّهات أقل عدائية تجاه الدولة السورية. إلّا أنّ ما يظهر، إلى الآن، هو أنّ عناصر الاستمرارية في هذه السياسة هي الطاغية، وأنّ المعنيين بالملف السوري في الفريق الجديد، وأغلبهم من أصحاب «الهوى الكردي»، يعزّزون مثل هذه الاستمرارية.

لم تتقبل الدولة العميقة الأميركية، وفي مقدّمتها الجيش، ولا التيار الرئيسي في إدارة ترامب، تغيّر مجرى الحرب في سوريا لمصلحة الدولة وحلفائها الإقليميين والدوليين. التحدّي الأبرز بالنسبة إلى هؤلاء، كان النجاح في بلورة استراتيجية تضمن رفع أكلاف انتصارات الجبهة المعادية لتتحوّل مع مرور الزمن إلى هزيمة. جميع الإجراءات التي اتُّخذت بحق سوريا من عقوبات وحصار وقوانين، كـ»قانون قيصر» مثلاً، اندرجت في هذا الإطار، غير أنّ الخطوة الأهم تمثّلت في دعم وتثبيت سيطرة «قسد» على الشرق السوري، أهم خزان للموارد الطبيعية في البلاد، أو «سوريا المفيدة» بعرفهم. أمّنت الحرب على «داعش» ذريعة لتطوير هذا الدعم نوعياً، واعتبار أنّ «قسد» ليست مجرّد حليف في الحرب على الإرهاب، بل ورقة قوة استراتيجية بالنسبة إلى واشنطن في سعيها لتحجيم «تمدّد نفوذ إيران» في الإقليم. تحقيق هذا الهدف لم يقتصر على تكريس سيطرة «قسد» على الشرق السوري للحؤول، قدر المستطاع، دون عودة التواصل الجغرافي بين سوريا والعراق، وبالتالي إيران، بل عبر استراتيجية حرمان الدولة السورية من موارد هذه المنطقة الحيوية.

بكلام آخر، كانت غاية هذه الاستراتيجية هي المزيد من خنق الدولة السورية اقتصادياً لإضعافها إلى أقصى حدّ، والعمل على تآكل سلطتها في المناطق المحرّرة للدفع نحو انهيارها، إن كان ذلك ممكناً. المكلّفون بالملف السوري من أمثال جويل رايبورن، المبعوث الخاص الأميركي السابق إلى سوريا، اعترفوا أمام الكثيرين بأن «لا ضير من صوملة سوريا»، إن كان ذلك سيفضي إلى كسر الحلقة المركزية في محور المقاومة.

قد يكون المعنيون بالملف السوري في الإدارة الحالية، وتحديداً في مجلس الأمن القومي، أقلّ تطرّفاً ممّن سبقهم، غير أنّهم يشتركون معهم في هدف إضعاف محور المقاومة إلى درجة تفكيكه إن استطاعوا، وفي انحيازهم إلى مشروع الإدارة الذاتية الكردية في الشرق السوري، التي يعتبرونها شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة. استعداد إدارة بايدن، المبدئي، للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وإن لم تتضّح جميع شروطه حتى اللحظة، لا يتنافى مع ما يسمّونه «تحجيم نفوذ إيران» في سوريا والإقليم. فبريت ماكغورك، مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي راهناً، كان قد شدّد في مقالاته التي نشرها في مجلّة «فورين أفيرز»، في العامين الماضيين، على محورية دور «قسد» في التصدّي لعودة «داعش» وفي المشاركة في معركة إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا. حماسة ماكغورك لـ»قسد» عندما كان مبعوثاً رئاسياً للحرب على «داعش»، قبل استقالته أواخر عام 2018 احتجاجاً على قرار ترامب الذي لم يُنفّذ بالانسحاب من سوريا، أدّت إلى تدهور كبير في علاقاته مع لاعب وازن في الأزمة السورية، كتركيا. الأمر نفسه ينطبق على زهرة بيل، مسؤولة ملف سوريا والعراق في المجلس إياه، والتي تعتبر من «مدرسة ماكغورك» بحسب مصادر مطّلعة على ما يجري في واشنطن. بيل، الموظفة السابقة في وزارة الخارجية الأميركية، التي عملت ضمن فريق «المساعدة على الانتقال في سوريا» خلال السنوات الماضية، المكلّف فعلياً بدعم الإدارة الذاتية الكردية، أضحت مقرّبة جدّاً من قائد «قسد»، مظلوم عبدي، و»مستشارة غير رسمية له» وفقاً للمصادر المذكورة سابقاً. تشير هذه المصادر إلى أنّ ماكغورك وبيل، كانا من أنصار «صفقة» بين دمشق و»قسد» تتمّ في إطارها مقايضة قسم من موارد الشرق السوري في مقابل شرعنة الإدارة الذاتية فيه، على عكس توجّهات جويل رايبورن، الذي كان يحاول التقريب بين «قسد» وتركيا.

تثبيت سلطة «قسد» عبر تأمين جميع مقوّمات استمرارها المادية والعسكرية، والسعي لانتزاع اعتراف الدولة السورية بها، من خلال المضيّ بتنفيذ سياسة حرمانها من مواردها الوطنية، التي أصبحت تداعياتها الكارثية، والمتفاقمة، على حياة المواطنين السوريين اليومية معروفة، تأتي ضمن مشروعٍ لتكريس التقسيم كأمرٍ واقع في سوريا. ومع أنّ المصادر تؤكّد وجود تباينات في وجهات النظر داخل فريق الإدارة بشأن هذا الموضوع، إلّا أنّها ترجّح في المدى المنظور استمرار سياسة الحرمان من الموارد. إفشال هذه السياسة هو بين التحدّيات الخطيرة المطروحة أمام أطراف محور المقاومة، وربما يشكّل العمل على المزيد من التنسيق بين دول الإقليم المتضرّرة من هذا المخطّط التقسيمي الأميركي، رغم ما بينها من خلافات وصراعات، ضرورة حيوية تمليها مقتضيات أمنها القومي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى