فن و ثقافة

يمكنك أن تقرأ رواية بسام كوسا بالمقلوب: احفظوا جيداً اسم (مبروك)

أنا فعلت ذلك..

قرأتُ رواية الفنان الكبير (الكاتب) بسام كوسا ( أكثر بكثير) مرتين: المرة الأولى من الفصل 1 إلى الفصل 21 ، والثانية من الفصل 21 إلى البداية، ويحق لي أن أقول لكم إنني يمكن أن أكتب مقالين نقديين مختلفين عن هذه الرواية حسب كل قراءة، هذا لأن النص رائع، ويفتح على أكثر من مستوى نقدي، فهو واقعي وسحري معا، وذو مضمون كافكاوي[1]، حتى لو لم يعجب رأيي النقاد !

ولو فعلتم أنتم ذلك لوجدتم النص المقلوب نصا يليق بالنص الأصلي الذي يفترض أن نكون قرأناه بشكل منطقي حسب تسلسل الفصول من 1 إلى 21.، ليس هذا فحسب، بل ستجدون أن بطل الرواية (مبروك) هو كل واحد فينا، لذلك انتبه بسام كوسا، إلى أهمية الفكرة ، وهاهو يفتتح روايته بعبارة :

احفظوا جيداً اسم (مبروك) ، فقد ينفعكم في يوم ما.

انتبه إلى أنه يسعى لتقديم نموذج روائي يكاسر النماذج الروائية الدرامية التي لعبها أمام الكاميرا، فأثارت المشاهد ، فطلب من القارئ ( أي منا) أن نحفظ جيداً اسم هذا النموذج الروائي، وكأنه يقول لنا بمعنى آخر : هذا ما لم تعرضه الشاشة بعد !

فمن هو هذا النموذج، هو شخصية الإنسان الصادق، ولد دون إرادته في جيل عقيم،  ولكنه ابن حرام (في القيم الاجتماعية)، هو يقصد (مبروك) ، وأنا أقصد (الجيل) الذي لم تستطع كل الأزمات التي مرت به أن تجعله يلد بشكل طبيعي من أم واحدة وأب واحد.

فابن الحرام هذا الذي سنحبه، كان أبوه عقيماً، فلجأت أمه إلى مضاجعة النجار، لتنجب منه عددا من الأطفال ماتوا جميعهم ونجا مبروك، وفي غرائبية الحدث أن شقيقة مبروك الطفلة العطشى طلبت الماء، فسقاها أبوها، (الصوري)، المخمور عرقاً وهي طفلة، فماتت.

ببساطة هي عوالم جديدة من الواقع يشتغل عليها بسام كوسا بأسلوب متقن وعمق في الرؤية، وسنلاحظها في تفاصيل الرواية بأيّ طريقة قرأناها، لكن تمعنوا جيداً في الفصل الثاني، نجد (مبروك)[2] أمام المرآة، (نشعر أننا نحن الذين نقف أمام المرآة)، وعلينا أن نعرف أنفسنا جيداً، فإذا بنا نتعرف على مبروك بشكله وبعض ملامحه وهوايته وبعض مفاتيح عالمه ..

” كنت أخفي هشاشتي خلف سخريتي.. تعلمت القراءة على نحو جيد والحساب، وجدول الضرب أحفظه غيباً.” ص 12

تبدأ الرواية بالتعرف على أسماء تظن أنها قصص قصيرة ، فمبروك يترك أسماء تبدو لأول وهلة مفككة، لا علاقة لها ببعض، لكن الخيوط تكتمل بعد عدة فصول في سياق ملبد بالإثارة ،لأن (مبروك) يتنقل من عمل إلى عمل، وفي كل عمل ثمة نموذج ينبغي أن نتعرف عليه، فإضافة إلى معلم النول الذي يشتغل عنده بين فترة وأخرى،  نتعرف على إيليا اليهودي، وهو من أصدقاء مبروك الذي التقاه في ورشة نحاس، فأصبح إيليا معلمه بما يملكه من مهارات، ويهاجر إيليا الي أمريكا طمعاً بالمال رغم حبه للشام.

أيضا نتعرف على برهان الذي يعمل في فرن عمل فيه مبروك ، ثم على الأستاذ عادل صاحب المكتبة الذي يعجب به، ويقطن في بناية اشتغل فيها مبروك ناطوراً، ثم على جاره (أبو سماح) العتال (أكثر من مستأجر في بيت واحد)، ثم نتعرف على سماح التي يعرض أبوها تزويجها من مبروك، وبمهارة واضحة لن يتأخر بسام كوسا عن إدخالنا في عمق روايته، حيث راحت الشخصيات تتشابك في صناعة المسار الذي يريده من النص، وبين كل هذه التفاصيل نلاحظ أن (مبروك) يريد أن يكتب، أي يريد أن يحكي، أي يريد أن يرفع صوته، أي يريد أن نتعرف على ماحولنا من خلاله، (أي من خلالنا في التأويل)، إلا أن ثمة إحساساً بأن هناك شخصاً يراقبه ويلاحقه وينبغي أن يتخلص منه !

في عمق الشخصيات وتشابك العلاقة فيما بينها عبر شخصية مبروك، هناك بؤس، هناك عزلة، هناك خوف، هناك أخلاق مفككة، هناك إرادة ضائعة، وهناك أيضاً بحث عن الذات. وفي عملية البحث عن الذات ، لم يجد (الكاتب بسام كوسا) مفراً من عنونة مشروع كتابته ( مائة عزلة في العام) ، فإذا كان ماركيز عاش مائة عام من العزلة في مأساة ماكوندو، فإن (مبروك) يعيش كل يوم مائة عزلة في بلادنا!

وبين أن تكون قرية ماكوندو موجودة أو خيالية في رواية ماركيز الشهيرة التي بنى عليها حكايات أسطورية ، فإن المكان عند بسام كوسا موجود وبنى عليه حكايات واقعية تشبه الأساطير، وكأنه يقول لنا : انتبهوا فحكاياتنا (حياتنا) غدت أغرب من حكايات ماكوندوا، وعليك كقارئ أن تبني القراءة الخاصة بك أمام المرآة لتكتشف أنك جزء من الحكاية..

عوالم موجودة حولنا، لكن بسام كوسا قدمها لنا بإيجاز، لأنه لا يريد أن نتعرف عليها كألف ليلة وليلة، ونظن أنها خرافة نسهر الليالي عليها لنستمتع، بل يريد أن نتعرف عليها كاستمارة تحقيق الشرطة ، التي أرادها الروائي الناقد خليل صويلح في كتابه عن تجربته الروائية الصادر بعنوان : حفرة الأعمى.

لم يقع بسام كوسا في (حفرة الأعمى) ، كثف المسألة بأقل من مائة وأربعين صفحة، وعندما قدم الشخصيات والأحداث ، ظهرت الثيمة التي علينا التعمق في مرادها ، فالمشهد يتراءى أمامها في الفصل الأخير ، فليس أمام مبروك (أمامنا) إلاّ “القفر الممتد” ص 137، ولكي يتعرف مبروك على طبيعة المشهد، يرى صفاً طويلاً : “وراءه صف ، وصف من الأغنام ، وهي تسير مهرولة على غير هدى، كانت الكباش والأغنام والحملان الصغيرة تشكل بحراً لانهاية له، وثغاؤها يملأ الفضاء بضجيج هائل” ص 138 ، والأخطر أن مبروك يعلن ببساطة :

“وجدتني أسير بينها من تلقاء نفسي”  الصفحة نفسها.

ويوضح أكثر : ” أردت أن أناجي وأتحدث بصوت مسموع، إلا أن صوتي خرج من حلقي في شكل ثغاء كبش” الصفحة نفسها.

ولكي لاتضيع فكرة المرآة في الفصل الثاني، يلح الراوي (مبروك) على كشف تفاصيل المرآة بطريقة جديدة :

” تلمست أطراف جسدي مصعوقاً، إذا كان مكسوا بالصوف ! نظرت إلى قدميّ وقد تحولتا إلى أظلاف قد شطرت من المنتصف ، وصرت أسير على أربع لم أصدق ماصرت إليه . لقد صرت خروفاً” الصفحة نفسها .

هذه هي نهاية الرواية ، ولكي تفهموا الرواية ، عليكم أن تقرؤوها بالمقلوب ، وعندها تجدون أننا نحن في المرآة !

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

[1] قبل نحو سنتين وتحديداً في أواسط أيلول  2020 قرأت في المركز الثقافي في الميدان قصة بعنوان (التحولات .. حدث غدا) ، يتحول فيها الراوي إلى ذئب راجع غوغل .

[2] بسام كوسا ــ أكثر بكثير ــ رواية ــ دار نينوى ــ دمشق ط1 ــ 2022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى