يوركي أنينكوف يجمع الأدب الروسي في كتاب
صدرت أخيراً الترجمة الفرنسية لكتاب الشاعر والفنان الروسي يوري أنينكوف (1889- 1974)، «يوميات لقاءاتي»، عن دار «سيرت» السويسرية. نقول «أخيراً» لأن هذا العمل المهم والضخم (800 صفحة) هو شهادة نادرة عن أولئك العباقرة الروس الذين نشطوا خلال عصرٍ عاصفٍ (النصف الأول من القرن العشرين)، وبالتالي يشكّل محاولة فريدة من أجل إعادة إحياء أجواء حقبة مهددة بالنسيان كان لوجوهها دورٌ رائد في التأسيس للحداثة الشعرية والفنية.
«حلقة مآسي» هو العنوان الفرعي لهذا الكتاب، ولا نرى مبالغة فيه نظراً إلى غزارة المآسي التي يتوقف أنينكوف عندها ويكشف ظروفها: انتحار إيسّينين وماياكوفسكي وبياست، إعدام غوميليف وبيلنياك وبابل وماييرهولد رمياً بالرصاص، تسميم غوركي، وموت بلوك وزوختشينكو وباسترناك من الحسرة والإنهاك، من دون أن ننسى التهميش والمضايقات المختلفة التي تعرّض لها زامياتين وأخماتوفا وماليفيتش وبودوفكين وكثيرين غيرهم، وأجبرتهم على التزام الصمت أو مغادرة وطنهم والعيش في المنفى.
شخصيات لامعة اختبرت الأمرّين على يد ستالين ونظامه، يستدعيها أنينكوف، الواحدة تلو الأخرى، بعدما عاشرها في مرحلة من مراحل حياته الطويلة، مستحضراً ذكرياته معها ومانحاً إيانا بورتريه فريداً لكل منها، يكشف جوانب جديدة في شخصيتها وتفاصيل مثيرة وغير معروفة عن حياتها، إضافة إلى توفيره قراءة نقدية ثاقبة لإنتاجها وعبقريتها تتخللها اقتباسات كثيرة من نصوصها.
ولكي نفهم قيمة هذه البورتريهات، لا بد من التعريف بصاحبها الذي ما زال مجهولاً خارج وطنه، على رغم إنجازاته الكثيرة، علماً بأن أيّ محاولة سريعة لخطّ مسيرته الغنية بفصولها وثمارها تشكّل تحدّياً تعجيزياً نظراً إلى أن هذا الرجل احتكّ بكل الميادين الفنية، إذ مارس الرسم التشكيلي وفنون الحفر وتزيين الكتب والكاريكاتور، ونشط كمخرج ومصمم ديكور للمسرح والسينما، ولمع كشاعر وكاتب وناقد، إلى جانب مصادقته أشهر وجوه عصره الروسية، ولكن أيضاً الفرنسية والإيطالية، وتغذّيه من ثقافات مختلفة.
ابن رجل ثوري كان مقرّباً من منظّمة «إرادة الشعب» الإرهابية، أمضى أنينكوف مراهقته كثوري رومنطيقي، ثم كثوري ملتزِم انطلاقاً من 1917. وحول هذه النقطة، يقول في كتابه: «فكرة الأممية كانت تثير حماستنا. فمع الانتهاء الوشيك للحرب ومجازرها، مددنا جميعاً- شعراء وفنانون- يدنا إلى رفاقنا في العالم أجمع». لكن خلف هذه الحماسة كان يقف وهمٌ ما لبث الشاب أنينكوف أن اكتشفه، الوهم بأن «الثورة الاجتماعية ستترافق مع الثورة الفنية وتدعمها».
وحين تبيّن له أن النظام الجديد لم يكن سوى «نظام بيروقراطي آخر»، اغتنم فرصة مشاركته في «معرض البندقية لفن الرسم» عام 1924 لمغادرة روسيا من دون رجعة، فاستقرّ في باريس حيث وضع نفسه ومواهبه الفنية في خدمة الشعراء والروائيين والسينمائيين والموسيقيين الذين عمل النظام السوفياتي على إخضاعهم أو تدميرهم بطريقة منهجية.
مواهب متعدّدة إذاً تغذّت من مختلف الميول والأساليب الفنية لعصره، علماً بأن مهارة أنينكوف تجلّت خصوصاً في فن البورتريه: البورتريه المرسوم الذي خصّ به نحو 70 شخصية، نذكر منها بروكوفييف وبودوفكين وأخماتوفا وزينوفييف وباسترناك وماياكوفسكي، وأيضاً أندريه جيد وجيرار فيليب وفيتوريو دو سيكا وجان لوي بارو؛ والبورتريه الأدبي الذي خصّ به خمس وعشرين شخصية، من بينها غوركي وبلوك وأخماتوفا وتولستوي وماليفيتش ولاريونوف وغونشاريفا وخليبنيكوف وزامياتين. بورتريهات نشرها انطلاقاً من منتصف الخمسينات في مجلات روسية وفرنسية مختلفة، قبل أن يجمعها عام 1965 في «يوميات لقاءاتي» ويضيف عليها بورتريهات سياسية مهمة.
وفي هذا السياق، يستوقفنا في كتابه بورتريه راسبوتين الذي يصف أنينكوف فيه العشاء الذي جمعه عام 1915 بهذا الراهب الرهيب، ملاحظاً «شعره الدهني وأظافره الوسخة وأصابعه الوحشية وعينيه المغناطيسيتين». يستوقفنا أيضاً بورتريه لينين الذي يتبيّن فيه أن أنينكوف أُمِر عام 1921 برسم بورتريه للينين فنفّذه بجلستين في الكرملين وجّه خلالهما حواره مع هذا الأخير حول موضوع «الفن كفعل ثوري»، فلم يكن لدى لينين ما يقوله له سوى الآتي: «بشكلٍ عام،
لا أشعر بأي تعاطف مع المثقفين. يجب عدم تأويل عزمنا على محو الأمّية كرغبة في خلق إنتيليجنسيا جديدة». موقف بائس لا يمتّ بصلة لموقف تروتسكي من هذا الموضوع الذي يظهر جلياً في البورتريه الذي رصده أنينكوف له، إثر لقائه به، وأشار فيه إلى «رقّته» وإلى كونه «مفكّراً بالمعنى الأصيل للكلمة» تشكّل ثقافته «حالة استثنائية بين زعماء الثورة».
لكن البورتريهات التي وضعها أنينكوف لأصدقائه الشعراء تبقى الأهم في كتابه. فعن أخماتوفا نقرأ: “الحزن كان فعلاً التعبير المميِّز لوجهها، حتى حين كانت تبتسم. حزنٌ فاتن كان يمنح وجهها جمالاً فريداً. في كل مرة كنتُ ألتقي بها أو أصغي إلى إلقائها، كنتُ عاجزاً عن إبعاد نظري عن وجهها: عيناها، شفتاها، وأناقتها البسيطة كانت تعكس أيضاً شعريتها الكئيبة”.
باختصار، بورتريهات في غاية الأهمية يتعذّر منح فكرة عن غنى مضمونها باقتباس أو اقتباسين، أو اختزال قيمتها بدقّة تشخيصها أو بالنظرة الفريدة الملقاة فيها على كل واحدة من الشخصيات المقاربة، فهنالك أيضاً ذلك الفيض من التفاصيل الذي يمدّنا أنينكوف به حولها ويساهم بقوة في تجسيدها ومنحها حضوراً ملموساً، كطريقة تصرّفها أو حركاتها أو نبرة صوتها. وفي ذلك، تتقاطع هذه البورتريهات مع تلك المرسومة حيث نرى الفنان يسلّط الضوء على ثؤلؤلٍ أو تكشيرةٍ أو نظّارة لعينٍ واحدة أو غليون أو عادة مستهجنة، أي على تلك الأشياء الصغيرة التي تجعل من كل واحدة من شخصياته كائناً فريداً.
كتاب أنينكوف هو دفتر يوميات حقيقي، ليس فقط لانبثاق البورتريهات التي يحتويها من عملية سرد هذا الشاعر- الفنان تفاصيل لقاءاته بأصحابها ومعاشرته اليومية لمعظمها، بل أيضاً لتضمينه هذه النصوص قصصاً وطُرَفاً كثيرة مشوّقة، وخطّه إياها بتلك العفوية والذاتية اللتين تميّزان عادةً هذا النوع الكتابي.
صحيفة الحياة