كتب

«يوميات رحالة»… نظرة جديدة في الاستشراق

رشا أحمد

لا يمكن قراءة كتاب «يوميات رحالة» التي صدرت ترجمته عن «دار العربي» بالقاهرة للمستشرق البريطاني ديزموند ستيوارت (1924 – 1981)، دون وضعه في سياق أشمل يتجاوز مجرد مذكرات رجل تنقل في الشرق الأوسط ما بين بيروت وبغداد والقاهرة، وهو ما يتماس مع الاستشراق كإطار ملتبس يتفاوت ما بين الحماس والحذر في علاقة الشرق بالغرب.

ظهر الاستشراق، حسب المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون، عام 1779 بإنجلترا ليشير إلى حركة ثقافية شاملة بدأتها الدول الأوروبية الكبرى لدراسة وفهم كل ما يتعلق بالشرق عموماً، والشرق العربي بخاصة، لا سيما على صعيد الثقافة والفكر والمجتمع والفنون والآداب. وقد يتم تعريفه بأنه «أسلوب للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي والآيديولوجي بين الشرق والغرب»، وأحياناً يكون المقصود بالاستشراق «ذلك العلم الذي يتناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب وباحثيه».

ويذهب المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935 – 2003) في كتابه الرائد «الاستشراق» إلى أن هذا المفهوم ينطوي على مبالغة في الاختلاف، وفرضية تؤكد تفوق الغرب، وتطبيق نماذج التحليل النمطية عن العالم الشرقي المتصور. بشكل عام، يُعد الاستشراق مصدر التصوير الثقافي غير الدقيق، أي أصول الأفكار والتصورات الغربية عن الشرق، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط.

وحسب سعيد، تتمثل السمة الأساسية في الاستشراق بأنه «تحيُّز خفي ومستمر محوره تفوق الحضارة الأوروبية ضد الشعوب العربية الإسلامية وثقافتها»، تُشتق تلك النظرة من التصورات الغربية عما يمثله الشرق واختزال الشرق إلى جوهر خيالي «للشعوب الشرقية». وتصف تلك التصورات الثقافية الشرق بـ«البدائي، اللاعقلاني، العنيف، المتطرف، الاستبدادي، أنه أدنى من الغرب، وبالتالي لا سبيل إلى (التنوير) إلا باستبدال القيم (الرجعية) بالأفكار (المعاصرة التقدمية)، التي إما أن تكون غربية أو متأثرة بالغرب».

تخرج ديزموند ستيورات في جامعة أكسفورد عام 1948 لكنه عاش معظم حياته العملية في البلاد العربية، حيث أتقن اللغة العربية. انتقل أولاً إلى بيروت ثم غادرها إلى بغداد حيث كان يدرس الإنجليزية بكل من «دار المعلمين العليا» وكلية الآداب ويترجم الشعر العراقي. وحين استقر في القاهرة، عمل مراسلاً لعدد من الصحف البريطانية، وأخذ يؤلف الكتب عن الشرق مثل «القاهرة الكبرى: أم الدنيا» و«لورانس العرب» و«الإسلام المبكر» و«الأهرام وأبو الهول». وكان واسع الاطلاع على الأدب العربي حتى أنه ترجم إلى الإنجليزية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي و«الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم.

وفي كتابه «يوميات رحالة» (262 صفحة من القطع المتوسط)، ترجمة سمير محفوظ بشير، يبدو ستيورات متحرراً إلى حد بعيد من تلك النظرة الاستشراقية الاستعلائية إلى الآخر، ويكتب بعين محبة عن مشاهداته في العالم العربي والتاريخ المصري الحديث منذ الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت 1798 حتى قيام ثورة 1952، كما يفرد مساحة للحديث عن الرئيس جمال عبد الناصر الذي أجرى أكثر من حوار معه، وبدا لافتاً أنه يصفه بـ«الصديق».

بين بغداد والقاهرة

ويصور ستيورات، بغداد، على أنها جزيرة ناعسة محاطة باللون الأخضر كما تبدو على الخريطة لكنه يعاني من هدوئها الشديد الذي يأخذ أحياناً شكل الرتابة كأنه هو نفسه لون الأرض البيضاء وجذوع النخيل النحيلة. من هنا، فوجئ لدى أيامه الأولى من إقامته بأحد الفنادق القاهرية بسيدة تصرخ بإنجليزية متقنة في جمع من النساء: يجب أن نذهب إليهم ونقضي على الأزمة ولو بالقوة! ولم تكن السيدة التي بدت مثل قائد عسكري رغم رقتها وملابسها الفخمة سوى إحدى سيدات الطبقة الأرستقراطية اللواتي قررن تغيير الواقع إلى الأفضل من خلال تنظيم رحلات جماعية إلى الريف والقرى في الوجهين البحري والقبلي للوقوف على مشكلات البسطاء على أرض الواقع.

وحين اشتبك المؤلف في حوار معها فيما بعد عرف أنها كانت تقصد تحرير الفلاحين من خطر انتشار الحشيش والمواد المخدرة بينهم. والمدهش أنه لا يتفق معها في الرأي، حيث يرى أنه الأولى محاربة الفقر والتهميش لدى هؤلاء القرويين لاستعادة إنسانيتهم ثم الحديث بعد ذلك عن إنقاذهم من الإدمان، أي أن الحشيش وأخواته بالنسبة له عرض وليس جوهر المرض.

ويصف المؤلف، القاهرة، بأنها مدينة رائعة إذا ما قورنت بالعاصمة اليونانية أثينا أو مدينة نابولي الإيطالية اللتين يعدهما «مخيبتين للآمال». وهو يعترف بأن لحضور الملوك في الشرق سطوة على القادمين من الغرب. ويضرب مثلاً بمواطن صديق له أكد أن رؤيته لمشهد ولي عهد العراق وهو يداعب غزالة كان أكثر مشهد أثر في وجدانه على مدار حياته.

مصر من الداخل

ينصف المؤلف الفلاح المصري ويبدو متعاطفاً معه قبل وبعد قدوم محمد على مؤسس الدولة الحديثة في مصر. ويؤكد أنه كان ينظر لهذا الفلاح على أنه البقرة الحلوب التي تترقب مصير جثمانها مجموعة من النمل الأسود الشرس. ورغم البنية الجسمانية القوية للفلاح التي يتم استخدامها في أعمال تقترب من العبودية، كانت تُفرض عليه الضرائب والمكوس التي تثقل ظهره لكنه كان صبوراً مجبولاً على التحمل طويلاً قبل أن تأتي لحظة الانفجار. وينتقد مشروع محمد علي للنهضة حيث أدخل المحاصيل الزراعية الحديثة التي لم تعرفها البلاد من قبل وشق الترع والمصارف، وتوسع في الأرض المنزرعة، كما أقام الجيش الوطني، وأسس الأسطول وفتح المصانع، ولكن كل ذلك كان بهدف زيادة ثراء «الباشا» وامتلاء خزائنه من الذهب دون أن يستفيد الفلاح من تلك النهضة أو يناله خير من ذلك الازدهار.

وحول إشكالية «الأصالة والمعاصرة» التي رافقت رحلة الحداثة في مصر على امتداد القرن العشرين، يُرجع ستيوارت أصل المشكلة إلى عهد محمد على الذي انصرف خلاله عن تطوير التعليم التقليدي وتعزيز دوره في تطوير المجتمع. ففي مقابل ذلك، بذل كل جهده ليفصل كل ما هو تقليدي عن كل ما هو حديث، وسعى لتثبيط الهمم في الأزهر بقطع الهبات والمخصصات عنه، ثم أرسل الطلاب إلى فرنسا لكى يدرسوا العلوم الحديثة، وبذلك أسس انقساماً استمر طويلاً في مصر ما بين الذين تعلموا بالطريقة التقليدية ومن نهلوا من المعارف الأجنبية.

ويتطرق المؤلف إلى أثر تدخل القوى الأجنبية على مسار الحداثة في مصر، حيث يرى أن خضوع مصر للاحتلال العثماني كان بمثابة ثغرة دخلت منها كل القوى الأجنبية الخارجية، وأنه فيما كانت مصر في عهد محمد علي على وشك مواصلة مشروع تقدمي حقيقي، فإن عرقلتها جاءت بسبب الهيمنة وفشل مشروع التصنيع بعد العداء الشديد من الرأسمالية الأوروبية.

ويطرح ديزموند ستيورات نقطة مثيرة للجدل حين يذكر أن اللورد كرومر، المندوب السامي لبريطانيا في مصر وممثل الاحتلال «فعل الكثير لكي يحسن من مبادئ العدالة في مصر»، وأنه أجهد نفسه في مهمته الأساسية كمشرف عام على مالية البلاد حتى ينجح في هذا الشأن، وأنه وصل والمصريون فقراء وتركهم وهم بالكاد أغنياء!

صحيفة الشرق الوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى