ثقافة الغفران
ثقافة الغفران… “الساعة الخامسة والعشرون” أفضل رواية صوّرت آلام اليهود على يد النازي في هنغاريا الأربعينات. عندما قرأت الرواية لم أستطع منع نفسي من التأثر والحزن والغضب، على الرغم من المرجعيات التربوية والنفسية ضد إسرائيل…
(إسرائيل اليهودية الصهيونية مخلوطة بمزاج ألماني تفوقي أوربي). وفيما بعد كان التفوق الإسرائيلي المستمر يعزز لديهم النسيان، بدلاً من توريث الألم، بمرور الوقت، على شكل حكمة للأقلية، التي نفذت من شقوق التاريخ، كأنما بمعونة الله الراضي عنها.
قرأت كثيراً من الأدب الإسرائيلي المترجم، فلم أجد “الساعة الخامسة والعشرون” الإسرائيلية الناضحة بيقظة الضمير، الباقي على مسافة أمتار زمنية من ألمين تشابها، وفيهما “عقدة الضحية” الذي غدا جلاداً مدججاً بالفنون نفسها المجرّبة في تعذيب مثالي لخلع أسنان الضحية وأظافرها وقلع عينيها…
لقد تفنن الإسرائيلي في الكراهية الروائية. فتغلب الشفوي على التاريخي في النظر إلى الأحداث. كان الفلسطيني، الفلاح والساذج، والذي تشبه دهشته من العداوة غير المفهومة، دهشة الهندي الأحمر من هجوم البيض على كوخه المسالم… كان هذا الفلسطيني قد ترك حقله ومضى حتى تهدأ الشهية اليهودية الدموية. فمضت الآن كل تلك السنين ولم تهدأ الشهية. وما زالت الثقافة، الإسرائيلية، من الحضانة إلى الابتدائي إلى الجامعة، تغذي فكرة الرواية عن نفسها. وهكذا لم يكن هناك ذلك القلم الهنغاري الذي أبكى أجيالاً على مصير بضعة أفراد يهود وعائلات يهودية شتت النازي شملها وخلّف في ذاكرتها تصنيفاً للألم في حده الجبار.
إن النقصان المتزايد في وعي التاريخ اليهودي، كما هو، سياسياً ودينياً، هو أساس الزيادة المتعاظمة في شهية العداوة.
العداوة المنظور إليها بعين ناقصة وعمياء ومباركة في أمريكا اليوم. لذلك نرى من الطبيعي اشتراك ثقافتين في التمجيد المبتذل للمشهد الانتصاري، تعززه بطولة غير مفهومة تماماً.
إن الأشلاء، عندما تغدو أشلاء يضيع منها إثبات الهوية وتاريخها.
الهنغاري “جورجيو” كاتب “الساعة الخامسة والعشرون” لم يعثر على الفرصة البصرية المماثلة لمشهد الخبز الدامي خارجاً من حرارة جسد طفلة، ومدعوماً بدمها. كيف ستأكل العائلة أرغفة مماثلة في ظل محاولة النسيان غير الممكن، بينما عجزت ثقافة، بمحتواها الخطابي، عن صياغة جملة تقال لأهل الضحية…ممكن نجاح محاولة النسيان، ولكن الغفران هو الذي تستحيل صناعته من الدم دائم الجريان.
إلى أمد بعيد… سيبقى الصهيوني معززاً بهويته اليهودية. وإلى أمد بعيد سيبقى الإسرائيلي معززاً بولاء كلبي مزدوج لأمريكا. وإلى مدى بعيد سيكون بوسع الجندي الإسرائيلي البقاء في دبابة حول مدينة ومخيم فلسطيني.
الفلسطيني لا يريد قتل جائع إسرائيلي يلتهم بيتزاه في مطعم، نحدّق بالعمق التراجيدي في قلب الأخ والأب والأم وهم يغمسون خبزهم بدمهم… إن المؤلف للحزام الناسف، سطراً وراء سطر، وفتى بعد فتى، هو إسرائيل بثقافة “عناقيد الغضب“. تلك العملية “الثقافية” في لبنان، حين مات مائة طفل بقنبلة في “قانا”.
عناقيد الغضب” عنوان للكاتب الأمريكي “جون شتاينبك” الذي مجّد، في الوصف الدبي، منظر القنابل وهي تتساقط في تشكيل جمالي على فيتنام.
هكذا أيضاً سميت طائرة الأباتشي الفتاكة على اسم زعيم قبيلة هندية أبيدت بالكامل.