«الشرطي الثالث»: طوفان من الحكايات
يرى شاتوبريان أنّ «على هذه الحياة أن تُصحِّح هوسَ المرءِ بالوجود»، فبمجرد أن يصبح الإنسان أسيراً لهذه الفكرة، لا يمكنه أبداً أن يعيش بطمأنينة، وحينها ينسى أن يحيا ويصبح هوسه الأكبر الموت. هذا ما عبّر عنه كافكا أيضاً بقوله: «إنّه خائفٌ وبشدّةٍ من الموت لأنه لم يعِشْ بعد». إذاً بين التفكير بالوجود والخوف من الموت، تضيع الحياة ليجد الواحد منا نفسه أمام الخسارة العظمى. ولعلّ لا خسارة أكبر من أن نخسر ذواتنا، لذا نلجأ في الغالب إلى السخرية كنوع من التعويض، لأنها بتعبير جيلبرت سينويه «المُنقِذ الوحيد من اليأس». لكن ماذا لو اجتمع كل هذا أي مسألة الوجود الموت، الزمن، الكوميديا، السخرية، في عمل أدبي يمكن الاصطلاح عليه بالكوميديا السوداء؟
ولربما النموذج الأصدق عن هذا كله رواية «الشرطي الثالث» (صدرت ترجمتها العربية عن «دار الرافدين») للكاتب الإيرلندي بريان أونولان (1911 ـــــ 1966) المعروف باسمه المستعار فلان أوبراين. الرواية لم تُنشر عند كتابتها عام 1940، إذ رفضها ناشرها الإنكليزي لطبيعة موضوعها. كما رفضتها دار نشر أميركية. لذا احتفظ الكاتب بالمخطوط برغم ادعائه تمزيقه. لكن بعد وفاته، قررت زوجته أن تنشرها، لتصبح «الشرطي» من أعظم روايات الأدب الإيرلندي. رواية ـــ كما اصطلح عليها ـــ تنتمي إلى العدمية الإيرلندية، إذ ترصد الأوضاع في تلك الفترة بطريقة كوميدية ساخرة، فمرة تضحكك حتى تنسى ما الذي يضحكك، ومرة تجعلك حائراً. رواية مدوخة، دوامة سرد، طوفان حكايات، فمبجرد أن تمسك الحكاية لتأتي الأخرى، كأن الكاتب لا مهمة له إلاّ توليد الحكايات. تقول الرواية: «عيناه غريبتان للغاية. لم يكن هناك انحرافٌ واضحٌ في وضعهما، لكن بدتا أنَّهما عاجزتان عن تصويب نظرةٍ مباشرةٍ نحو أيِّ شيءٍ في وضعٍ مستقيم، بصرف النَّظر عمَّا إذا كان انحرافهما الغريب هذا يناسب النَّظر إلى الأشياء المنحرفة».
«الشرطي الثالث» كما تبدو للقارئ، قصة شاب يتيم يموت والداه ويتركانه مع جون ديفني، فتكفّل بتسيير مزرعته، وكل ما يتعلق بإرثه في قريته، ليقرر الراوي (الشاب) الذي لا نعرف اسمه، التأقلم مع هذا الواقع. فهو يعتمد على ديفني لأنه فقد رجله في حادث وعوّضها برجل خشبية. أيضاً لديه ما يشغله، فهو يريد الاشتغال على أفكار الفيسلوف دو سيلبي. وطبعاً شخصية الفيلسوف متخيّلة، اخترعها الكاتب ليمرّر على لسانها ما يود قوله بطريقة مكثّفة وغرائبية جداً، إذ إن نظرياته المفرطة في عجائبيتها تحيل بشكل ما إلى الواقع، لكن من منطق الأدب.
يقتل الراوي بتحريض من جون ديفني، جارهما العجوز فيليب ماذرز ويسرق أمواله كي يسدد بها الديون ويشتغل على موضوع دو سيليبي بأريحية. وهنا تتطور الأحداث وتتكثف وتتكاثف، إذ يضرب الكاتب بالواقع عرض الحائط، عندما يعود الراوي إلى بيت العجوز كي يأخذ الصندوق الذي خبّأه شريكه هناك قبل سنوات، كي لا يثيرا شكوك الشرطة. يشعر أن العجوز ما زال حياً. يقول: «كانت الضِّمادات تلفُّ جسده، لكنَّ عينيه كانتا تبرقان بالحياة، وكذلك كانت يده اليمنى على قيد الحياة، وكذلك باقي جسده. ربَّما كانت جريمة القتل التي حدثت على جانب الطَّريق مجرَّد كابوس». لكنه في الحقيقة يحاور روحه التي أطلق عليها اسم «جو». وفي هذه اللحظة بالذات، يكتشف القارئ أشياء أخرى كثيرة تجعله حائراً ومحتاراً.
نتعرف في الرواية إلى الشرطيين بلوك وماكرويسكين، والشرطي الثالث فوكس، ونكتشف كذلك قصة الدراجات التي تتحول إلى بشر، والبشر الذين يتحولون إلى دراجات والفتحة التي تؤدي إلى الأبدية. حين يتحدث الكاتب من خلال النص عن الريح، الرائحة، الليل والنوم، فإنه يتناول ذلك من منظور فلسفي. مثلاً يقول عن الرَّائحة بأنها «أعقد ظاهرةٍ في الوجود. لا تستطيع الأنوف البشريَّة أن تفسِّرها أو تفهمها بوضوحٍ، إلَّا أنَّ الكلاب تستطيع التَّعامل مع الرَّوائح بطريقةٍ أفضل منَّا بكثير» وأن لون «المرء هو لون الريح التي كانت سائدة ساعة ولادته».
الذي يقرأ العمل، يشعر أن الكاتب يحتفي بالطبيعة والكائنات الأخرى، جيراننا على هذا الكوكب بطريقة بديعة، إذ يقول: «فلتوضِّح طبيعة متاعب الحياة، مع التَّأكيد على جمالها الكامن وجاذبيَّتها. «أيُّ جمال؟». الزُّهور في الرَّبيع، وعظمة وكمال الحياة الإنسانيَّة، وتغريد الطُّيور في المساء ــ أنت تعرف جيِّداً ما الذي أعنيه».
حين تقرأ «الشرطي الثالث» تشعر وتستشعر بالفعل ماذا تعني كلمة رواية، وكيف يمكن للعمل الجيد أن يتوغل داخلك ويحاول تحريكك بطريقة ما. عمل لا يشبه الواقع أبداً، وأحداثه كلها غريبة، لكنه أقرب للواقع من الحكايات المفتعلة التي لا رمزية لها سوى أنها حكايات يمكن أن يقولها أي واحد فينا بالطريقة التي يريد، ولعلّ هذا هو الفرق بين الأدب الخالد وبين ما يكتب بدعوى أنه أدب.
«الشرطي الثالث» ليست ساخرة أو تنتمي إلى الكوميديا السوداء، أو بوليسية أو فلسفية، بل هي رواية عن كيف يمكن للرواية الجيدة أن تكون تلك التي تفهمها كما يُراد لها أن تفهم، بل إنه «لمن شقاء المؤلف أن يتم فهمه» على رأي إميل سيوران. كما أنّ الرواية عن إيرلندا في تلك الفترة بكل ظواهرها الاجتماعية وأحداثها السياسية.
والميزة الأخرى التي أضافت الكثير للنص بنسخته العربية، الترجمة الجيدة والتحرير الممتاز لـ«دار الرافدين»، إذ تبدو كأنّها مكتوبة بلغة الكاتب الأصلية وليست مترجمة.
وأخيراً، نختم بهذه الحكمة من الرواية التي يقول فيها: «إن حدث وأردت أن أختبئ، فسأختار دوماً أن أتسلَّق شجرة؛ فالنَّاس لا يرفعون نظرهم إلى الأعلى، ونادراً ما يتفحَّصون المستويات المرتفعة».