تينيسي وليامز كاتب مسرحي عاش على صفيح ساخن
تينيسي وليامز كاتب مسرحي عاش على صفيح ساخن…. “لكل فنان قضية أساسية تشغل تفكيره طوال حياته، وهي القوة الدافعة وراء كل انتاجه الأدبي، وبالنسبة لي كانت القضية المسيطرة على تفكيري هي الحاجة إلى الفهم والتعاطف بين بني البشر، وثباتهم في وجه الشدائد”.
بهذه العبارات المقتضبة لخص تينيسي وليامز تجرتبته الفنية ورحلته الأدبية كأحد أهم كتاب المسرح الأميركي في القرن العشرين، تاركا العنان لمساحة حرة للنقاش والجدال حول ما خلفه من إرث فني يراه البعض أثرى مكتبة المسرح الأميركي المعاصر، بينما يراه البعض الآخر أنه كاتب مسرحي سخر موهبته لإرضاء الجمهور، ومداعبة غرائزه.
مع الإحتفال بعيد ميلاده في شهر مارس/اذار، نسلط الضوء على مذكراته التي خطها بيده، فكانت مليئة بالثرثرة، وذاخرة بالأحداث، وعامرة بالشخصيات كمارلون براندو الذي كان بطلا لمسرحياته في بدايته، وإرنست هيمنغواي الذي تردد في مقابلته ظنا منه أنه سيتعامل معه بغطرسة وفظاظة ثم أندهش من تواضعه فوصفه بالساحر، وتكررت المقابلات. وساعده إرنست على مقابلة فيدل كاسترو في كوبا، والذي رحب به وعرفه على أعضاء مجلس الوزراء، وسره معرفة كاسترو بمسرحيته “قطة على سطح من الصفيح الساخن”، التي أتى ذكرها وهم يتناولون القهوة والمشروبات العطرية في أجواء ودية بدت له خيالية.
جاب تينيسي البلاد شرقها وغربها وزار أوروبا وتعرف على العديد من الشخصيات الملهمة، تحمل المذكرات تفاصيل شديدة الخصوصية عن حياته، في خلطة سحرية ما بين أدب الرحلات والسير الذاتية يعطي لنا لمحة عن طبيعة الحياة في أميركا، وعن كواليس مسارح برودواي، والحياة في أجزاء متفرقة من العالم حيث طاف وليامز بالعديد من البلدان ما بين ثلاثينيات القرن العشرين وحتى وفاته في العام 1983.
ولد توماس لاينر ويليامز في السادس والعشرين من شهر مارس/ آذار من العام 1911 بولاية ميسسيبي الواقعة بالجنوب الأميركي لعائلة من أصول إنكليزية. والده كان يعمل بائع متجول لبيع الأحذية يقول على لسان والدته أنه كان وسيما في شبابه حتى أدمن الخمر مهارته بالبيع أهلته للترقي ليصبح وكيل مبيعات لإحدى الشركات الكبرى بمقاطعة سانت ليويس بولاية ميزوري فانتقلت معه العائلة إلى هناك لكن سمعة الأب تضررت بسبب القمار الذي كان سببا في مشادة كلامية حادة بينه وبين مقامر آخر تطورت في ليلة غبراء إلى عراك قضمت فيه أذن والده ولم تفلح الجراحات التجميلية في إصلاح ما أفسدته تلك العضة التي صارت وصمة، وفتحت بابا للسخرية من رب العائلة الذي وصفه إبنه في مذكراته بالقسوة ما خلف آثارا نفسية سيئة عليه وعلى أخته الكبرى روز فعاشا في عزلة وحاولا الإفلات من العيون المترصدة والألسن التي لا تكف عن الحديث بالسوء في حق والده.
كانت هيزل حبه الأول أو كما ورد على لسانه “حب حياته العظيم”. فتاة تصغره بعامين، شغفته حبا وهو في الحادية عشر، وشغلته عن اللعب مع باقي الصبية بشعرها الأحمر وعينيها الجميلتين الواسعتين، عندما بلغت الرابعة عشر كانت تنحني وهي تسير إلى جانبه كي لا يشعر بالحرج من فرق الطول بينهما، كانا جامحي الخيال، تخترع هيزل ألعاب التسلية، ترسم وتروي له القصص، فشكلت لبنة أساسية في بناء خياله الخصب. كانت متحفظة فيما يخص الجنس، فلم تسمح له بتقبيلها سوى مرتين في العام. وحاولت أمه من جهة وأم الفتاة من جهة أخرى إنهاء تلك العلاقة كي لا تتطور أكثر ما سبب له إحباطا. ذاقت أخته روز من نفس الكأس على يد والدته التي كانت تتبعها خطوة بخطوة فمرت بأوقات عصيبة تركت آثار مأسوية على حياتها وتطورت سريعا بشكل مخيف.
في سن السادسة عشر نشرت قصته الأولى في مجلة قصص غريبة بعنوان “إنتقام نيتوكريس”. وفي يونيو/حزيران من العام نفسه إصطحبه جده القس في أسقفية إلينوي في جولة بأوروبا مع مجموعة من المنتسبين للكنيسة تركت أثرا واضح على معتقداته الدينية. ولما عاد كانت اخته قد وصلت إلى حافة الجنون وفقدت عقلها بشكل كامل وهي لاتزال في العشرين من عمرها ما سبب له أزمة، وتطور إلى سلوك عنيف طال من حوله.
كناتف لريش الحمام في مزرعة ريفية دخل تينيسي مجال العمل بأجر زهيد وثرثرة لا تنقطع بين الشباب الجالس ليوم كامل لا يملك في جعبته سوى سرد القصص. وفي العام ذاته حصل على جائزة من جمعية المسرح بنيويورك على مجموعة من المسرحيات ذات الفصل الواحد بعنوان ” أحزان أميركية” وكانت قيمة الجائزة 100 دولار وهو رقم معتبر في تلك الأيام. إضافة أنها كانت حافزا له على لإستمرار في الكتابة ومواصلة المشوار.
بتوصية من والده إستطاع أن يعمل ويضع له قدما في شركة أحذية. دخل بعدها إلى عالم المسرح من بوابة التشخيص وأدى دورا صغيرا ويعترف أنه لم يكن يجيد التمثيل فقد كان الخجل حاجزا في مواجهة الجمهور فلاذ منه إلى عالم الكتابة من جديد.
وقعت الصدمة الكبرى عندما تزوجت هيزل، فحاول التغلب على أحزانه، وإلتحق بالجامعة بمساعدة مالية من جده، ثم دخل في علاقة جديدة في محاولة لنسيان حبه الوحيد لكنه لم يوفق، كان يعاني من مشاكل في القلب منذ صغره ما جعل العلاقة مع فتاته الجامحة والذي فضل منحها اسم مستعار في مذكراته غير مستقرة، فهجرته وارتمت في أحضان من يشبع إحتياجاتها الجنسية، وربما كان فشله مع النساء سببا في دخوله في علاقات مثلية تطورت فأصبحت شغله الشاغل. وتحولت مع الوقت إلى هوس.
لم يكن إعتلال عضلة القلب كل مشاكل وليامز الصحية، كان مصاب بالمياه البيضاء منذ أن كان صبيا نتيجة لحادث أدت إلى إعتام عدسة العين اليسرى، ما إضطره لعمل ثلاث جراحات متتالية إحداها كانت بالمجان أمام فصل في كلية الطب كنوع من المحاضرات العملية، ولك أن تتخيل الضغط النفسي الذي وقع عليه وهو يتقيأ أمام فصل دراسي كامل يشاهد ويدون ملاحظاته عن هذه العملية الجراحية.
بدء عمله في مسارح بروداوي كمرشد يساعد الجماهير في الجلوس في أماكنهم وقد إقتنص الوظيفة لا لشيء سوى أن سلفه كان يملك نفس الطول والبنية ما جعل بزته الرسمية مناسبة عليه. كان ذلك في مسرح أولد ستراند بأجر 17 دولارا كان يستقطع منهم 10 دولارات لإيجار غرفة، والباقي لطعامه وشرابه. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. بدأ وليامز في العمل بكتابة السيناريو. وكان النجاح الذي حققه في مسرحية الحيونات الزجاجية لافتا، فدعا أمه إلى حضور العرض فأدخل السرور على قلبها وهي ترى إبنها يحقق نجاحا طال إنتظاره. طلبت منه والدته العودة إلى المنزل ونيل قسط من الراحة في بيت العائلة.
لم يرحب بالفكرة وسافر إلى المكسيك كي يستجم ويحضر لمشروعه الجديد. كان قلق يزداد بداخله بعد النجاح والخوف من السقوط مرة أخرى كان ضاغطا عليه. وهو ما لم يحدث فقد كان عرض مسرحية “لقد لمستني” ناجحا إلى حد كبير، وأعطاه دفعة للمواصلة.
لم تسير على الوتيرة ذاتها. أخذ يعد لمسرحية “صيف ودخان” وقد إستغرقت وقتا طويلا في التحضير وأعاد كتابة المسودت أكثر من مرة. فلم تخرج بالشكل اللائق، حضر جده للمكوث معه فكان دافعا له للخروج من كآبته وإحباطه. فبدأ في كتابة مسرحية عربة اسمها الرغبة. أحد أبطالها ممثل شاب يدعى مارلون براندو كان لا يزال في مقتبل العمر. كان النجاح مدويا هذه المرة.
سافر تينيسي إلى إيطاليا وهناك إلتقى بعدد من المخرجين الإيطاليين الشبان مثل لوتشينو فيسكونتي الذي أخرج فيلم الحيونات الزجاجية، وكان في هذا الوقت يستعد لإخراج عربة اسمها الرغبة. بقاء وليامز بروما لبعض الوقت كان له أثرا إيجابيا، فإستطاع تكوين صداقات بمساعدة صحفي أميركي مخضرم يعيش في روما فسلطت الأضواء على الكاتب المسرحي ونال ظهور إعلامي لافت بالصحف الإيطالية التي لم تفوت الفرصة للحديث عن ميوله الجنسية.
لكن ذلك لم يؤثر على ما أمدته به المدينة الأوروبية العريقة من طاقة إيجابية، دفعته لمعاودة الكتابة بشكل جيد. بعدها سافر تينيسي إلى إسبانيا ومنها إلى المغرب كانت مسرحيته العربة تحقق نجاحا كبيرا بمسارح أميركا وأوروبا، لكن مسرحية صيف ودخان لم تحقق النجاح ذاته رفضت المنتجة آرين ماير سيلزيك مسرحيته وشم الوردة، رغم تعاونها معه في مسرحية عربة اسمها الرغبة. لاقت مسرحيته الجديدة إستحسان شيريل كروفورد فقدمها للجمهور بإنتاج سخي بالعام 1950 وحققت نجاحا واسعا، في هذه الأثناء كان وليامز يبحث في دفاتره القديمة فأخرج مسرحية كامينوريل من الدرج بعد أن نصحه المنتجين آن ذاك بتمزيقها، فأعاد كتابتها وخرجت للنور بالعام 1953.
كان اسم تينيسي بدأ يلمع وأثر ذلك بشكل فارق على إستقبال أعماله من قبل النقاد قبل الجماهير. وهو ما أعطاه ثقة كبيرة فخرجت مسرحية قطة على سطح من الصفيح الساخن في العام 1954 لتصبح نقطة فارقة في حياة الكاتب الشهير وبنجاح ساحق. يعترف تينيسي في مذكراته أنه كان على حافة الجنون عند عرض المسرحية في ليلتها الأولى بنيويورك وبعد العرض أصيب بخيبة أمل كبيرة، فلم يخرج العرض كما أراد، وأعتقد أن الرسالة التي تضمنتها المسرحية لم تصل إلى جمهور ولا النقاد فعاد إلى شقته وهو في حالة من الغضب والإنفعال شديد. بينما حاول المقربون التخفيف عنه والإنتظار. وقد كانوا على حق. فقد حقق العرض نجاحا لم تحققه إيا من أعمال تينيسي السابقة.
بدا جليا أن المؤشر يتحرك نحو الهبوط، كان لا يستطيع الكتابة إلا تحت تأثير المنبهات الإصطناعية بالإضافة إلى الإفراط في شرب الخمر والمخدرات. وحالته كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم، ثم جاء فشل مسرحية “أورفيس يهبط” ليزيد من هواجسه عن قرب السقوط. واجه تينيسي هجمة شرسة من النقاد في أواخر الخمسينيات وبداية الستينات وهي الحملة التي تضمنت هدف واضح وصريح وهو إعادته إلى حجمه الطبيعي ما لم يتحمله. ولم يتوقف عن الكتابة رغم الإخفاقات المتلاحقة لكنه لا يزال يقاوم. على إستحياء حقق عرض مسرحيته ” قطار الحليب” نجاحا مقبولا
ان إدمان تينيسي على الكحول والمخدارت بدافع للإنتحار كما ذكره صراحة في مذكراته. بدأ في زيارة عيادة الطبيب النفسي لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا. فعاش أواخر أيامه في عزلة بعد حياة صاخبة شديدة العبث والمجون. لكنه عاش حتى تجاوز السبعين وتوفي في العام 1983 .