كانت اللغة القومية العربية بصيغتها الناصرية والتي طبعت رؤية #طلال سلمان السياسية وحتى جهازه العصبي هي لغة المواقف التي كان يطوعها في أي حدث مهما كان محليا أو عربيا أو خارجيا حتى أصبحت كفاءته في ذلك متميزة .
كان نشاطه الشخصي، الذهني والجسدي يطغى على كل يومه المهني. كتلة متحركة من الملاحظات داخل وخارج “السفير” وبذلك لم يكن المعلق الأول وكاتب الافتتاحية فحسب، بل كان هو المخبر الأول في الصحيفة مهما بلغ عدد المخبرين فيها، وكان يعرف أن وزنه الإعلامي والسياسي لا يفتح الأبواب المغلقة على المعلومات فقط بل كان لا يهدأ حتى يتأكد وإلى ساعة متأخرة من الليل أن الخبر الذي يحمله والذي استخرجه بعلاقاته هو الخبر الأول في حصاد الصحيفة ذلك اليوم. لكن إذا جاءه أحد الزملاء بخبر كبير كانت عيناه تلتمعان كطفل وجد لعبته المفضلة أو كمن عثر على ثروة.
على أن الهاجس العربي والعروبي، وهما صفتان لمضمون واحد حينا وغالب الأحيان لمعنيين مختلفين بل متناقضين في الثقافة السياسيةالعربية، جعله طلال سلمان مهرجاناً متحركا على صفحات “السفير” ولو كان الإنصاف، إنصاف تجربته الهامة والطويلة، يتطلب القول أنه كان فنانا في الاستحصال على جاذبية للخبر المؤدلج إحدى وسائلها جعل المعلومات تبدو طاغية على الموقف ولو كان الهدف العكس.
كانت صحيفة “السفير” في نظر بعض الجيل الذي أنتمي إليه والذي ذهب من الجامعة إلى الصحافة مشروع “لوموند” عربية. صحيح أن هذا لم يحصل بسبب ظروف لا يتحمّل طلال سلمان وحده مسؤوليتها وربما لم يكن يفكّر كقومي عربي وخريج المدرسة الصحافية المصرية في نموذج “اللوموند” نفسها، لكن النجاح الذي حققته “السفير” صنع منها بقيادة طلال سلمان شخصية مهنية خاصة على المستوى العربي وليس اللبناني فقط.
أعرف “السفير” في حقبة من حقبات نجاحها الكبير الذي كان يحوّلها في الجاليات العربية المغاربية صحيفة النخب الثقافية الأولى في المهاجر، وصحيفة رغم راديكاليتها مطلوبة في الخليج كما هي موضع اهتمام الصحافيين المصريين. ففي مصر تأثر طلال سلمان عندماكان مراسلاً، بمدرسة محمد حسنين هيكل وبقي كل حياة “السفير” يعتبر نفسه تلميذا له وكان تأثير هيكل الشخصي عليه كبيرا وأظن بالمقابل أن الأستاذ هيكل الذي كان يحترم “السفير” يغبط طلالا على إصداره صحيفة خاصة به.
في جيلي، سواء الذين كانوا يعملون في “السفير” أو خارجها في لبنان وسوريا، كان في “السفير” نزعة يسار الوسط الأوروبي ولاسيماالفرنسي، وكان طلال سلمان عدا في أيام احتدام الصراعات التي تشغله على “الجبهة” كما تشغل الحرب جنديّها، كان يأنس لهذه النزعةاليسارْ وسطية ويحب استكتاب صحافييها وكتّابها ثقافيا وسياسيا فضلا عن أنه بقي على الدوام صديق الشيوعيين وهو الذي كان كمراسل صحفي ل”الصياد” في أواخر الستينات والسبعينات غطى في سلسلة مقالات شهيرة اختلافات وانشقاقات الشيوعيين السوريين.
قلت أن “لوموند عربية” لم تولد، لربما نالت “السفير” أو صحيفة أخرى هذه الفرصة لو رسمت الأقدار مصيرا مختلفا لبلدنا. فكيف للحرب الاهلية الطاحنة أن تسمح بتطور كهذا في حين أن كل لبنان كمشروع دولة حديثة وذات طبقة وسطى حقيقية متوسعة كان يتعرّض للتدميرالممنهج على مدى خمس عشرة سنة.
التقيتُ بطلال سلمان للمرة الأخيرة بعد إقفاله “السفير” في رحلة إلى بغداد بدعوة رسمية مع بعض الزملاء. واتفقنا، وقد التمعت عيناه عندما اتفقنا، أن نحاول زيارة الموصل بعد طرد “داعش” منها.
ما كان أضعفه أمام الحس الصحافي، كان وهو رئيس التحرير الذي يبدأ تنافسه مع كل طابق في الصحيفة منذ دخوله على طابق الاستعلامات، طالما تحمّل مجازفاتٍ بسبب هذا الحس الصحافي رغم ذكائه السياسي، والسبب أنه كان بكل بساطة يضعف أحيانا بسبب اغراء المعلومة أو المقال الخطر.
أرجو أن يكون أبو أحمد قد ترك مذكرات غير منشورة لأني أعرف كما يعرف الكثيرون، خطورة ما سمع وما قيل له و أهميته.
أقبل على “السفير” جيلان لا جيل واحد، كلاهما مَنَحَتْهُ الصحيفة فرصة التبلور المهني والنضوج السياسي حتى من موقع نقدي لهاوللمرحلة. وستبقى “السفير” في ذاكرة الصحافة العربية مدرسة مهنية ومشروعا مفتوحا ولو أغلقت التحولات أبوابه.
وداعاً أستاذ طلال.