‘بائعة الزهور’ تفوح بفرص جديدة للفرح
يعرض الكاتب سمير إسحق في روايته “بائعة الزهور” حدثًا واقعيًّا يصلح لأن يكون ذكرى حزينة لكلِّ من خاض تلك التجربة ومرَّ بأحدثها وتجاربها، ومنغصة ليل لمن فقد روحًا عزيزة على قلبه. وقد شيَّده الكاتب في قالَبٍ سرديٍّ جعل من السهل عليه الوصول إلى ذهن القارئ ومشاعر وأوجاعه.
وقد جاءت الرواية بائعة الزهور الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 174 صفحة من القطع المتوسط، وتدور معظم أحداثها حول شاب يدعى مسيحي “كمال” فقد زوجته؛ ولكنَّها بالنسبة إليه كدهرٍ طويل، فقد كان يحبها وبعد موتها فقد الاهتمام بالمكان والزمان، وضاعت أحلامه وحياته، فهو لا يزال يذكرها كلَّ يومٍ، وكلَّ أسبوعٍ وكلَّ شهر..
كان كلَّ يوم يزور قبرها ويترحم عليها، ومع مرور الأيام كان يأتي كلَّ أسبوعٍ مرةٍ واحدةٍ ومعه باقة ورودٍ يضعها على قبرها، ويمكث حوالي الساعة يذرف عليها الدموع، ويأتي إلى المكان نفسه؛ ليشتري باقة ورد؛ ليضعها على قبرها.
وكم تبعث تلك الذكرى الحزينة مشاعر خاصة إلى نفسه؛ فيبكي حرقة عليها! لقد كانت حبَّه الأوَّل حبَّه اللامتناهي، لقد أحبَّها بكلِّ مشاعره، وكلِّ أحاسيسه وكل حياته، تعلَّق بها، فكانت أيقونة يعلقها على صدره، وكانت بالنسبة له نورَ الحياةِ، ويتذكَّر كلماتها الأخيرة، وهي تقول له والدموع في عينيها: “أحبك.. كمال: اذكرني دائمًا”.
وتمرُّ الأيام به صعبة لا تطاق، وهو يراها في نومه وصحوه، وعمله، وذهابه ومجيئه، يتحرك في البيت وكأنه يسمع صوتها، تحادثه أو تناديه، إنَّ صورتها لا تفارق ذهنه، أعطته كلَّ شيء: وقتها وقلبها وحبَّها الكبير، إنَّها ذكرى عطرة، لقد كان المرض أقوى منها، ورُغْمَ العلاج الطويل فإنَّها لم تستطعْ مقاومته؛ فرحلت -بعد ذلك- تاركةً إيَّاه في حزنٍ دائمٍ.
وبين ليلة وضحاها تجسدت قصة حب بينه وبين شابة مسلمة تسمَّى “منى” كانت تعمل في محل زهور اعتاد أن يقطف منه بعض الوردات تنتهي بافتراقهما نتيجة الظروف.
وبعدها يتعرف على فتاة أخرى تسمى “سعاد” ويحبها ويتعلق بها مع اختلاف ديانتهما.
وقد ساعدت حياة أمريكا وحريتها على مجريات أحداث الرواية -على ما تُنبئ به روح الرِّواية- بانتماء الكاتب نفسه إليها- وولعه الشديد بالانفتاح رغم كونه عربيًّا يحب بلاده وشعبه، منحا العملَ صدقًا فنيًّا عاليًا؛ فثمة أسلوبٌ سهل ممتنع، ولغة سَلسة، وشخصيَّات واقعيَّة، وأمكنة مألوفة، وأحداث يوميَّة تبدو معتادَة في ظاهرها غير أنَّ إخراجها في قالب فنِّيٍّ أدبيٍّ يحتاج قدرةً على الموهبة والابتكار، هذه العناصر ائتلفت جميعُها فمكَّنت القارئ من أنْ يُطلَّ على أحداث عاشتها البلدان العربية، والحروب بين العراق والكويت، ليعيش يوميَّاتِها وهمومَ ناسِها ودفءَ العلاقات في ما بينَهم؛ رغم وجوده في مجتمع آخر ألا وهو أمريكا أرض الحريات.
ويخوض كمال؛ بطل الرواية، مجموعة من الأحداث الإضافية منذ فقد لزوجته وحبه لبائعة الزهور، ومن ثم تعلقه بفتاة جامعية تسمى “سعاد” وهي على غير دينه أيضًا.
ومن أجواء الرواية بائعة الزهور التي تظهر فيها تعلق كمال بزوجته وندائه الداخلي بالخروج من تلك الصدمة وتقبله لمجريات حياته:
“ولكن وجه تلك المرأة يشبه إلى حد كبير وجه زوجته، تُرى ما هي مشاعره الجديدة التي تولدت بعد أن قابل تلك المرأة؟ ولماذا يفكر بها؟ من غير المعقول أن يكون وقع في غرامها هكذا من أول نظرة، ولكنَّ لطفها وشخصيتها الناعمة، وكلامها معه كان لهما التأثير تأثير الطاغي طاغٍ على نفسه، وقضى ليلته وهو يفكر بالأمر، وحاول أن يغمض عينيه لينام ولكن النوم هرب منه، وعندما أفاق في اليوم التالي شعر بأن جسده منهك من التعب، وليس لديه ذلك النشاط الذي أحسه البارحة، وفكَّر أن التغيير في جدول حياته يجب أن يحدث وبسرعة، وهذه الوحدة القاسية التي ارتضاها لنفسه لم تعد مقبولة، ولا يستطيع الاستمرار في هذه العيشة وحيداً؛ القلب يتسع للعالم كله، ويتسع لحب جديد، كذلك نستطيع أن نحافظ على ذكرياتنا مع الناس الذين نحبهم، ومع ذلك نعيش حياتنا ولا ننساهم، والإنسان يستطيع أن يحب مرة ومرات؛ لأننا ولدنا من الحب، فكيف لا نستجيب للطارق الجديد؟ وشعر أنه قد ارتاح لهذا الحوار مع نفسه، وقال: ما المانع في أن نتغير للأفضل ونعيش حياتنا مع فرح جديد؟”.
إنها الحياة تعطيه من جديد فرصة ثانية من أجل أن يعيد الفرح إلى نفسه، فهل يستغل هذه الفرصة من أجل نفسه، ومن أجل حياة جديدة فيها الفرح الذي فقده مع رحيل زوجته؟
ومن الجدير ذكره أنَّ سمير إسحق كاتب وقاص ولد في يافا عام 1944م، درس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق لمدة سنتين. يمارس الأعمال الحرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
وصدر له عن “الآن ناشرون وموزعون”: “غيوم بلا مطر” رواية، 2018، “وجع من الماضي”، رواية، 2023. وصدر له كذلك: “غريب على نهر هدسن”، مجموعة قصصية، 1988. “الرحيل”، مجموعة قصصية، 1989. “عذاب على الشاطئ الشرقي”، رواية 1990. “الاعتراف”، مجموعة قصصية، 1992. “سراب الماضي”، مجموعة قصصية، 1993.