بكين ــ أتمّ زميلنا مرحلة “مابعد الدكتوراه” في كندا، وعاد للعمل في الصين بعد غياب استمرّ مدة أربع سنوات.بعد سفره الطويل هذا، دعانا إلى العشاء، جلسنا نتبادل الحديث حول ما توصّلنا إليه في دراستنا، ولا سيما وأننا كنا نعمل معا “أونلاين” على بعض الأفكار أثناء سفره.
وفي الحقيقة وبعد هذه السنوات ، لم نشعر بأي تباعد بيننا، إذ كنا نتشارك الآراء بكل سلاسة.
تطرّقنا إلى الكثير من الفروقات بين نمطي التفكير الصيني والغربي وتحديدا في مجال البحث العلمي، وقضايا الكم والكيف في النشر البحثي، كنا نتحاور بدون أي حواجز فنقول أفكارنا بدون تردد ونختلف تارة ونتفق تارة أخرى، ونحن على يقين تام بأنّ الاختلاف لن يولّد خلافا.
وحتى عندما كنا نختلف بشدة، كان حديثنا ينتهي بالضحك.
لوهلة تذكرت صديقا يمنيا قد جاء إلى الصين منذ أربع سنوات ولم يعد إلى بلده حتى اليوم،كان يتحدث عن حجم الفجوة في طريقة التفكير بينه وبين أبناء بلده ممن بقوا في اليمن، إذ وصل لمرحلة لا يستطيع التواصل معهم كما كان في السابق، لعدة أسباب من أهمهاالفروقات التي تفرضها ظروف الحياة في دول متقدمة يمشي فيها الزمن إلى الأمام، وبين دول إما تحيا حروبا وتخلفا أو تحيا مرحلة انتقالية بانتظار مستقبل مجهول تتفق عليه باقي الدول.
تذكّرت أيضا لقاء مع صديق قديم جاء من سوريا في زيارة إلى الصين، كنت قد عرفته في دمشق لسنوات كثيرة، وهو أستاذ جامعي وباحث، كان قليل الكلام صبورا هادئا لا يتحدث إلا فيما يعنيه، عندما عرفته كان قد جاء لتوه من أوروبا التي أكمل دراسته في أرقى جامعاتها، إلا أن صدمتي به كانت كبيرة، بالفعل قد تحول إلى شخص آخر كثير الكلام، غير هادف، لا يعرف ماذا يريد، ولا يهدف إلى معرفة ما يجهله، كنت أراقبه بحيرة، وبصراحة لم أتجرّأ على قول أي شيء إذ شعرت أن أي انتقاد سيجعله ينفجر، كنت أحاول أن ألفّ وأدور لأفهم ما الذي أوصله إلى هذا الحال، وذلك على الرغم من أني كنت أدرك تماما مشاكله، مشاكله التي هي بحجم بلد.
قارنت بين الحالتين: صديقنا الصيني الذي ذهب إلى كندا وعاد بعد سنوات، وأصدقاؤنا في بلداننا الذين لم نعد قادرين على التواصل معهم فكريا، وذلك على الرغم من أن مدة الغياب ذاتها.
استذكرت أغنية كنت أسمعها في أيام غربتي الأولى: “كأنما خُلقنا للنوى وكأنما حرام على الأيام أن نتجمّعا” كنت أعتقد أنها أغنية البعد المؤلم، لكننا اليوم نحن أبناء الدول المتخلّفة نواجه بعدا أصعب، هو بعدنا الفكري عن نظرائنا في بلداننا، هو خوفنا من أن نقول لهم هذا ما تعلمناه، خوفنا من أن نقول لهم خبراتنا هم الطامحون إلى الكثير، والذين قد يكونون أكثر قدرة منا على التحصيل والعمل والإنتاج، لكن نتيجة لظروفهم المعيشية اليومية لم يتمكنوا أكثر من السعي لاهثين إلى الماء والكهرباء والتفاصيل المعيشية الصغيرة .
تذكرت عبارة قرأتها في أحد الكتب تقول: “تتجلى عدم عدالة الحياة، في أناس خُلقوا في بلدان متأخرة، وآخرون في بلدان مزدهرة”، تذكرت أيضا آلاف المهاجرين الذي يموتون غرقا بحثا عن النور القادم من البلدان المتقدمة، هربا من جحيم بلدانهم.
بالفعل، نحن شعوب مقهورة، ظلمتها الجغرافية مرة عندما خلقتها في بلدان متخلفة، وظلمها التاريخ مرات عندما قرر أن يعيد نفسه على هيئة حروب ضد شعوب مستضعفة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة