بكين ــ منذ أيام، سافر أحد شباب حيينا اليافعين ممن تخرّجوا من الجامعة مؤخّرا إلى ألمانيا، لمتابعة مرحلة الدراسات العليا.تعمّدت متابعة حسابات أصدقائه على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كانوا جميعا ينشرون صورهم معه متمنين له حياة ناجحة. حقيقة، كان حزن الفراق يغلب أي محاولة ابتسامة في الصور، لا سيما وأنّه كان شابا محبوبا من الجميع. وعلى الرغم من كل الألم الذي يخلّفه هكذا وداع، إلا أنّ ذلك لم يمنع بقية أصدقائه من التفكير في كيفية إيجاد طريقة للسفر، كمحاولة للنجاة من البلاد وآلامها. حاولت مواساة بعضهم إلا أنهم جيل يعرف ما يريد تماما، ولذلك لم أجد لمواساتي أي معنى، فجميعهم يعلم أن المستقبل صعب ويجب العمل على التضحية من أجله، وتحديدا في هذه الظروف لا بد من السعي إلى إيجاد المستقبل في مكان آخر.
ذكّرني سفر “سامي” بسفري..بمغادرتي البلاد.. برحيلي عن سوريا.. بالرحلة التي قطعتها. فكّرت في كيفية تلقيه لصدمة الفارق الثقافي عند وصوله أو كما يسميها البعض بالصدمة الحضارية، تلك الصدمة التي لا تقلّ وجعا عن ألم “الولادة” لأنها ولادةفي مكان جديد آخر،ولادة صعبة وشاقّة، لأنها تحدث عل قيد الوعي، فلا نستطيع الصراخ عندما نبتعد ونسافر كما يفعل الأطفال الصغار عند ولادتهم، بل نكتم تلك الصرخة لأنها لا تليق بمن غادر وضحّى وتألّم بحثا عن الأفضل.
فكّرت فيما ينتظر “سامي” أو أي شاب يغادر حديثا، كيف يمكن أن يبحث عن روائح البلاد في شوارع مدينته في ألمانيا، تماما كما أقف عند وردة “عطر الليل” مقابل المدخل الكبير للبناء الذي أسكن فيه، وأتذكر رائحة “صافيتا”…أو مثلا كيف من الممكن أن يبحث في السوبرماركت عن “الخيار” السوري القصير كي يعثر على رائحة البلاد حتى في “الخيار”. كيف من الممكن لـ “سامي” أن يحاول الانفصال عن البلاد والخروج منها، فلا تخرج منه، لا سيما وأن في أذنيه طنين ضحكات أصدقائه في سهرات المساء في مكان عمل والده في منشرة الخشب. تذكرتُ كلّ ما مررتُ به، وتمنيت أن يكون “سامي” أقل وعيا خلال ولادته الجديدةفي تلك البلاد البعيدة كي لا يرافقه هذا الألم كله. تمنيت أن يحاول الابتعاد ولو قليلا عن كلّ ما يتعلق ببلادنا كي ينعم في إقامته. ولكني أعرف تماما أن من يبحث عن رائحة البلاد في “الخيار” و “عطر الليل” سيقف عاجزا أمام النسيان.
نحن جيل الحرب لم ننعم برائحة الياسمين، بل فقط قرأنا عنها في الكتب، ولكن مع ذلك نملك من سعة الخيال وعمق الأمل، ما يجعلنا قادرين على استنشاق عبق الياسمين في شوارع الصين وألمانيا وفرنسا واسبانيا ومنغوليا، والقول يا الله تلك النسمة ليست بالغريبة عنّا، إنها “نسمة سورية”.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة