تاريخ

كتاب ديفيد هيل عن العلاقات الأميركيّة – اللبنانيّة: هُزال التـخصّص [5]

أسعد أبو خليل

لا يزال الحديثُ هنا عن كتاب ديفيد هيل الجديد، «الديبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكن هذه المراجعة تعتمدُ على النسخة الإنكليزية).

 

الطريفُ أن الأميركي فيليب حبيب اعتبرَ أن تنازلات أمين الجميّل لإسرائيل مضرّة بسيادة لبنان، فيما لم يرَ الرئيس اللبناني المؤتمن على حفظ سيادة لبنان ذلك. يذكرُ هيل عرضاً كيف أن أمين الجميّل رضخَ فيما بعد تماماً لدمشق، بعد أن كان راضخاً لإسرائيل. شفيق الوزّان (أضعف رئيس وزراء في تاريخ لبنان) وعد جورج شولتز بأنه سيأتي بدعم سنّي للاتفاق المذلّ رغم خيبته منه (كان وجود الوزّان بعد أن رفض معظم أعضاء نادي رؤساء الوزارة التعاون مع الجميّل، مجرّد صورة لإضفاء طابع توافقي على القرارات الانعزاليّة الفئويّة. كان الوزّان صامتاً فيما كان عناصر القوّات والجيش -الانعزالي الفئوي آنذاك- يخطفون المواطنين من بيروت الغربيّة ويغتصبون النساء). أعجبتني في سرديّة هيل عن الدور الأميركي في لبنان قوله إن «أميركا تعثّرت فدخلت في الحرب الأهليّة». زلّت قدم أميركا فوجدت نفسها تدعم فريقاً ضد فريق في الحرب الأهليّة (كانت أميركا ضالعة في الحرب قرب اندلاعها لكن لم يكن لها قوّات على الأرض تشارك في القتال إلا في ما بعد في الثمانينيات، وهي كانت ضالعة في الحرب الأهليّة الصغرى في 1958). لا، يقول هيل إن أميركا كانت تحاول احتواء الحرب الأهليّة منذ 1973. إذا كان ذلك صحيحاً فلماذا كانت تسلّح الفريق اليميني الفاشي فيها؟ يحاول أن يفسِّر هزيمة القوّات الأميركيّة في لبنان في 1984 فيقول، غير هازئ، إنه كان هناك في مواجهتهم «مدفعيّة الدروز والقوة الإرهابيّة لحزب الله»، الذي لم يكن موجوداً بعد. يقرُّ بدور إيران في تعطيل الدور الأميركي في لبنان في الثمانينيات مستعينة بسوريا فيقول إن البلديْن «نقضا المكاسب الإسرائيليّة وهزما صفقة السلام بين القدس وبيروت، المرعيّة أميركيّاً». لا يزال خبيركم عاجزاً عن الاعتراف أن نصف اللبنانيّين كانوا ضد السلام مع إسرائيل. ينزع نحو التعميمات الاسشتراقية كي يبرّرَ الفشل الأميركي فيقول إن لبنان (بسبب تركيبة أبنائه؟ أو بسبب مكوّنات مأكولاته) هو «أرض توماس هوبز» وأن الحكومة اللبنانيّة حكماً ضعيفة. يتأسّف لأن الحكومة الأميركيّة لم تبلور سياسة لمواجهة إيران. قد يكون قد وجد مُراده في مواقف حكّام الخليج الذين ينالون إعجابه وإعجاب صهاينة واشنطن.
لا أنكرُ أنه على حقّ عندما يقول إن «العمل العسكري الإسرائيلي والديبلوماسيّة الأميركيّة أزالا ما سمّاه بـ»التهديد الفلسطيني لإسرائيل من لبنان»». هذا صحيح لكنه لم يكن ليحدث لو أن القيادة الفلسطينيّة المتمثّلة بياسر عرفات لم تقد المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة إلى التهلكة. هذا سمحَ بالقضاء على منظمة التحرير في 1982. لكن هذا هو لبنان بالنسبة إلى أميركا: مصدر تهديد لإسرائيل ولهذا إن أميركا مستعدّة أن تستعمله وأن تحرقه إكراماً لإسرائيل (كما يجري اليوم تماماً). هذا التصريح لهيل في كتابه يكاد يعترف بضلوع مباشر للحكومة الأميركيّة في الحرب الأهليّة وفي الاجتياح الإسرائيلي للبنان (فلنكفّ عن النقاش إذا كان الضوء الأميركي في حينه أخضر أو أصفر أو بنفسجياً كأن ذلك يغيّر من حقيقة الرعاية الأميركيّة للاجتياح ولمساعدتها لإسرائيل في قطف ثماره على أكثر من صعيد). يعترف هيل أن احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني (لا، هو يقول احتلال إسرائيل لـ«المنطقة الأمنيّة في جنوب لبنان» كأن تلك المنطقة مُطوَّبة لإسرائيل) أسهم بنظر اللبنانيّين في تشريع المقاومة وفي تحوّل حزب الله «من وحدة إرهابيّين مُمَوَّلة من الخارج إلى قوة مقاومة». وهو يضيف في ما بعد أن حزب الله في حقبة أواخر الثمانينيات وما بعدها «لم يعد فقط مجرّد ميليشا أداة لإيران أو مجموعة إرهابيّة بل تحوّلت إلى قوة سياسية واجتماعية معتبرة، ومتنافسة مع أمل للسيطرة». هذا مسؤول أميركي رفيع يقول ذلك فيما لا يزال يرفض الكثير من اللبنانيّين الاعتراف بذلك. الطريف أن هيل يمرّ مرور الكرام على مرحلة الصراع العنيف بين النظام السوري والحزب، خصوصاً في مجزرة ثكنة فتح الله في 1987.
نصل إلى مرحلة كلينتون ورفيق الحريري ونكتشف كم أن دعم الحريري كان في أجندة الحكومة الأميركيّة. قد يكون ذلك بسبب تأييده الصادق لمقاومة إسرائيل، وليس لمحاولاته مع أصدقائه في النظام السوري لضرب حزب الله مبكراً ونزع سلاحه. يعطف هيل على رفيق الحريري كثيراً. يقول إن الحريري أنفق مالاً على «المنفعة العامّة» أكثر من أي ملياردير لبناني آخر. يقول إنه نظّفَ بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي وأنشأ منحاً في الجامعة الأميركية في بيروت. يقول إنه عمل في السرّ مع الرياض ودمشق من أجل تسوية الأمور مع النظام السوري. الحريري أبلغ الحكومة الأميركيّة أنه سيقوم بدوره المطلوب عند التوصّل إلى سلام مع إسرائيل عبر إطلاق إستراتيجية «نموّ اقتصادي» التي يمكن أن تضعف القبضة السورية على لبنان. يقول إن الحكومة الأميركية كانت أساسيّة في إقناع «القوّات اللبنانيّة» بتسليم سلاحها (أو إرجاعه إلى إسرائيل أو بيعه لتجّار أسلحة في أوروبا).
يعترف أن الحكومة الأميركيّة لم تسعَ إلى انسحاب القوات السورية من لبنان أبداً لأنها كانت تعتقد أن وجود القوات السوريّة ضروري من أجل فرض اتفاقيّة سلام بين لبنان وإسرائيل في مرحلة لاحقة. هذه هي خطة أميركا في فرض اتفاقيّات السلام في المنطقة العربيّة: التعاون مع قوى الاستبداد والقمع من أجل فرض اتفاقيّة سلام مع إسرائيل رغماً عن أنف الشعوب. أصبح وجود القوات السوريّة في لبنان لسنوات طويلة، باعتراف هيل، ضرورة من ضرورات السياسة الأميركيّة نحو الصراع العربي-الإسرائيلي. أرادوا من تلك القوات أن تنزع سلاح حزب الله مستقبلاً للتمهيد للسلام مع إسرائيل. وهذا الموقف وارد في كتابات إدوارد جيرجيان ومارتن إنديك. إنديك كان صريحاً في مذكراته عن ذلك: أن أميركا احتاجت إلى القوات السوريّة في لبنان لنزع سلاح حزب الله عندما يتمّ التوصّل إلى سلام بين سوريا وإسرائيل. يعترف هيل بنفاق الموقف الأميركي: الموقف المُعلن يقول بسيادة لبنان فيما الموقف الحقيقي غير المُعلن يعتمد على بقاء القوات السورية في لبنان لخدمة أغراض نشر الاستسلام لإسرائيل. يقول إن حافظ الأسد (حسب مسؤول أميركي لم يسمّهِ وإن كان على الأرجح دنيس روس، ما يضفي الشكّ على مصداقيّة كلامه لأن روس يستسهل الكذب) أكد للمسؤولين الأميركيّين أنه سيتدبَّر أمر إيران وحزب الله مستقبلاً (في حال الوصول إلى سلام مع إسرائيل). ويقول إن حافظ الأسد أسهم في تهدئة الجبهة في الجنوب في 1993 وفي 1996. السلام بين سوريا وإسرائيل كان أولويّة تسبق الشأن اللبناني لأن السلام من شأنه، حسب التصوّر الأميركي، إزالة النفوذ الإيراني من لبنان. أهم هدف لأميركا في تلك المدة (وهو يصلح شعاراً لسياسات أميركا في كل الحقبات) يتلخّص بضمان «سلام شامل لإسرائيل» مع العرب. هذه كانت سياسة ترامب وهي اليوم سياسة بايدن.
يذكر «فضيحة» «مرج الزهور» قائلاً إن رابين ضاق ذرعاً بـ«الإرهاب الفلسطيني» لكن القضيّة تحوّلت إلى «فرصة علاقات عامّة» لأعدائها. يقول، خطأً، إن حزب الله اختطف الكولونيل الأميركي، ويليام هيغنز، لكن الخطف كان على يد «المقاومة المؤمنة» المُنشقّة عن «أمل». يتحدّث عن سنوات خدمة السفير جون كيلي وضلوعه في فضيحة إيران كونترا. أراد جورج شولتز أن يصرفه من الخدمة لكن ريغان رفض وقبلَ بعقوبة مسلكيّة له. بعد سنوات الخدمة، عمل كيلي في الـ«بزنس» في لبنان مع شركاء لبنانيّين. الـ«بزنس» يجذب الكثير من الديبلوماسيّين الأميركيين ونذكر كيف أن «ويكيليكس» فضحت السفير جيفري فيلتمان الذي كان يحب أن يسمع من ميقاتي شخصيّاً عن ممتلكاته وإقامته في موناكو.
يتحدّث عن حرب 1993 بين المقاومة وإسرائيل فيقول إن المسؤولين الإسرائيليّين أعلموا دنيس روس أن هدف تهجير الجنوبيّين كان للضغط على الحكومة اللبنانيّة كي تطلب من حافظ الأسد كي يُعطِّل «سلوك حزب الله». لم يوافق النظام السوري على هدف وقف نيران المقاومة في الشريط المحتل. وافق الإسرائيليّون على اتفاق نيسان على مضض. يعترف أن أميركا وإسرائيل تفاوضا مع حزب الله عبر دمشق. يصف مجزرة قانا في 1996 بـ«الكارثة» كأنها لم تكن جريمة حرب من قبل إسرائيل نفسها. يعترف أن الحكومة الأميركيّة قاومت الضغوط لتمرير قرار عن المجزرة في مجلس الأمن. يعترف أن تفاهم نيسان شرعن مقاومة حزب الله. يقول إن شرعنة حزب الله هي التي تركت الانطباع عند الشعب اللبناني أن الجيش عاجز عن مواجهة إسرائيل. تحتاج إلى منسوب مرتفع من الكذب كي تقول إن ذلك مجرّد انطباع وليس حقيقة.
عن وزراء حزب الله في الحكومات يقول: «كانوا يقومون بواجباتهم على أكمل وجه وتركوا انطباعاً جيداً حتى مع خصومهم بسبب حرفيّتهم». وبينما سلّمت واشنطن بالنفوذ والسيطرة السورية في لبنان، كانت أميركا تقوم بما يلزم لمساعدة «الزعماء الموالين للغرب في بيروت». تحضرك هنا صور اجتماعات 14 آذار وما سبقها من تجمّعات وخلوات. يقول إن أميركا تعاملت بإيجابية في البداية مع إميل لحّود فقط، حسب هيل، لأنه يتحدّث الإنكليزيّة ودرس في الكلية البحريّة في نيوبورت. لكنه يعترف أن الجيش استعاد حرفيّته ووحدته تحت قيادة لحود. يذكر أن الحكومة الأميركية دعمت الجيش لكنه لا يذكر أن المساعدات كانت ضئيلة جداً، كما أنها كانت – كما اليوم – لا قيمة عسكريّة لها ولا تكفي أبداً لحماية لبنان. هي، كما أقرّ شامل روكز أخيراً، مُعدة لمجابهة خطر «الإرهابيّين» في الداخل. تعرّفت أميركا إلى إميل لحوّد بعد أن أصبح رئيساً ويقول عنه: «أميركا لم تعرف رئيساً معادياً لأميركا مثله قطُّ». صحيح: لأنه الرئيس اللبناني الوحيد الذي كان بالفعل غير طائفي ومعادٍ للصهيونية وإسرائيل. من الطبيعي ألا تتفاهم أميركا معه. يقول إن الحريري كان يظهر «دفئاً» في العلاقة مع أميركا، على عكس لحّود. يقول إن لحّود كان يتبع حافظ الأسد متناسياً أن الحريري (حليفهم) كان أداة بيد المخابرات السوريّة (التي كان ينفق عليها شهريّاً) طوال سنواته في الحكم. من أفضال لحّود التي لم ترد في الكتاب نجاحه في إقصاء غازي كنعان عن لبنان. لم يجرؤ أي مسؤول لبناني على معاكسة كنعان غيره.
(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى