برع الأدب في وصف الحالة الكئيبة التي تسطو على ملاعب كرة القدم بعد نهاية المباراة: عندما تسقط الظلال على الاستاد وهو يفرغ من الحشود، وتشتعل هنا أو هناك على المدرجات الإسمنتية بعض مواقد النيران سريعة الانطفاء، بينما تخبو الأضواء ومعها بقايا الأصوات… ليظل الملعب خاوياً ويرجع المشجّع إلى وحدته، يبتعد، ويتفتت، ويضيع، ويصبح يوم المباراة مثل الرماد بعد موت الكرنفال!
لكن في سوريا وتحديداً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كان صوت عصمت رشيد (1948ـــــــ2024) كفيلاً بصوغ المزاج واستمرار بثّ الحماس، واستطالة حالة الفرح التي ترافق حضور المباراة عندما كان يصدح صوته من كلّ بيت سوري وهو يغني: «دقّوا ع الخشب يا حبايب دقّوا ع الخشب فرحة وزلغوطة يا حبايب للمنتخب» بشرط أن يكون الفريق السوري قد حقق فوزاً. وفكرة الدقّ على الخشب عُرف وتقليد سوري من أجل تجاوز الحسد والعين! حينها، كانت محطّات التلفزيون السوري الرسمي حاضرةً فوراً لبثّ الأغنية الخالدة التي حققت انتشاراً واسعاً ورافقت جمهور كرة القدم على مدار عقود من الزمن، وحفظت كلماتها أجيال متعاقبة تولّعت بمستديرة السحر! أخيراً أغمض صاحب هذه الأغنية عينيه، وأسدل ستار الختام على حياته ومضى ظهر الأحد الماضي عن عمر ناهز 76 عاماً عاشها مولعاً بالفن والحياة، بعدما تعب قلبه على إثر العمليات المتلاحقة التي أجراها في العام الأخير من حياته. وربما تكون سيرة عصمت رشيد معادلاً موضوعياً لكل الحالات الإبداعية التي توهّجت في دمشق، ثم طالها النسيان وقضمها التهميش: بعد مرحلة متقدة بالأضواء، ومكللة بالشهرة والنجاحات والعمل في مختلف أنواع الفنون، والسفر إلى مصر وتحقيق النجاح هناك، ختم الرجل مسيرته وهو يغني في المطاعم الشعبية المتواضعة، ليحقق دخلاً ويحافظ على وجوده! بعيداً من حياته كمغن وملحّن، ما لا يعرفه كثيرون عنه هو الودّ الذي كان يطفح من حضوره أينما حلّ ومن دون مناسبات، إذ يكفي أن تقابله في أحد الأسواق الشعبية في منطقة «الشيخ محي الدين بن عربي» مثلاً أي على سفوح قاسيون، وتلقي عليه التحية ليبادلك بأحسن منها على الفور، ويخوض معك في أحاديث حيوية دافئة حتى من دون أن يعرف مهنتك ومدى اهتمامك به!
أما عن الانطلاقة الحقيقية لمسيرته، فقد كانت مع أغنية «يا شعرا الأشقر» التي كتبها أحمد قنوع ولحنها سعيد قطب. ومن هناك بدأت رحلته مع الإذاعة السورية، حيث قدم أكثر من 220 عملاً ما بين الإذاعة والتلفزيون. ومن أشهر أعماله الغنائية: «كان عندي غزال»، و«كفك يا جميل»، و«دقوا على الخشب»، وجمعت أغانيه بين الطابع الكلاسيكي والموسيقى المعاصرة، ما جعله أحد رموز التجديد في الأغنية السورية. كما أنه واحد من رعيل الثمانينيات، وقد نال شهرة واسعة آنذاك وصُنِّف على أنه ملحّن ومغنّ من الدرجة الأولى، وقد انضم إلى جمعية المؤلفين والملحنين ومركزها القاهرة وباريس، وسجّل مشاركات عابرة في التمثيل ت
صحيفة الاخبار اللبنانية