جوزيه ساراماغو، في روايته (العمى) يجعلك تفكر بمعنى وباء العمى الذي أصاب الشعب، وبمعنى الكوارث التي وقعت خلال الوباء، ولذلك لم أستطع الكف عن العودة إلى الرواية بين فترة وأخرى، لأستعيد تلك الدهشة التي أصابتني عند قراءتها للمرة الأولى.
كنت أتفحص الأسطر الأخيرة من الرواية عندما اتصل بي صديقي، وهوموال للنظام السابق، من حلب، وأخبرني أن المدينة تسقط، والجيش يتقهقر بفوضى غريبة. سألته : كيف؟ فأجابني : لا أعرف ربما هي الخلايا النائمة التي هيأت لهجوم هيئة تحرير الشام والجيش الحر.
ومرت الساعات ، ثم مر يومان، وكنت في زيارة عند مسؤول سياسي سوري، فجاء قريبه وهو من رجال المخابرات في حلب، وشرع يحكي عن سقوط حلب كأوراق يابسة، وقدم تفاصيل مذهلة عن انكفاء القوى الأمنية ومقتل أصدقائه وزملائه، وعندما استوضحت منه عن كيفية حصول ذلك، قال لي ، كشاهد عيان إنه كان في أحد الأحياء عندما سمع ضجيجا في الخارج، فنظر من النافذة ليجد عدة مسلحين يطلقون النار في الهواء، وقد تجمع أكثر من ألف من السكان يرحبون بهم ، فسألته : كيف ؟ فأجابني : خلايا نائمة !
سمعنا في البيانات العسكرية عن إعادة انتشار الجيش السوري حول حماة، وعن تحصين المدينة استعدادا لهجوم معاكس كبير يقطع خطوط الإمداد عن المسلحين، ومن ثم يستعيد حلب، وكان الحوار قد اشتعل بين الناس يريد جوابا واضحا عما يجري، وكان هناك رأيان أن حماه لايمكن أن تسقط لأنها أهلها لايريدون أن يتكرر التاريخ الدامي للمدينة، وكان هناك تخوف رسمي من أن تكون المدينة المعروفة بأنها حاضنة للإخوان المسلمين، خلية نائمة ، لكن رأيا ظهر بأنها ستكون قلعة عسكرية !
سقطت حماه ، وأذاع الجيش أنه هناك عملية انتشار حفاظا على المدنيين، وأن الاستعداد للهجوم المعاكس يجري غلى قدم وساق وأن قوات كبيرة تحشدت حول حمص، وتخوض معارك لاسترجاع طريق خناصر، والسفيرة ، وهو واحد من أهم الطرق الاستراتيجية التي لايمكن التخلي عنها ، كما حصل في النصف الثاني من العقد الماضي، وقال رامي عبد الرحمن من كوفنتري، بأن أم المعارك ستحصل في حمص، وستكون المعركة الفاصلة .
لم يمض وقت طويل حتى سقطت حمص، وكانت الأخبار تأتي من الجنوب عن انسحابات الجيش من درعا والسويداء في عملية إعادة انتشار لإنشاء خط دفاع حصين عند تخوم دمشق، وقد سُلم الجنوب لفصائل المصالحة المسلحة، وانتشرت بين الموالين فكرة شائعة بأن فصائل المصالحة التي أقامها الروس هي خلايا نائمة !
بعد ظهر يوم السبت اتصل بي أحد الأصدقاء ، وهو في زيارة لمحام هو صديق مشترك، وطلب أن يراني، فأخبرته أنني أحتاج لنصف ساعة لأكون في المكتب ، فأكد أنه سينتظرني، وبعد ربع ساعة اتصل بي، وقال : أنا آسف اتصلوا بي من بيتي في جديدة عرطوز، وأخبروني أن الخلايا النائمة تستولي على المدينة ، لذلك ينبغي أن أذهب إلى البيت قبل أن تقطع الطرقات، فأجبته : بيتي مفتوح لك في دمشق عند الضرورة !
نمت باكرا ذلك المساء، لكن ابنتي أيقظتني عند الفجر، وهي تخبرني أن الجيش انسحب ودخلت الفصائل المسلحة إلى حمص ثم دمشق، وأن كل شيء انتهى، فلم أصدق، وهرعت إلى وسائل التواصل لأتأكد ، وإذا هي حقيقة..
وهكذا سقطت طرطوس واللاذقية والرقة ودير الزور .. أمام دهشة السوريين والعالم ووسائل الاعلام في كل مكان .
يوم الجمعة في 13 نوفمبر2024 عرضت محطات التلفزة في جميع أنحاء العالم بثا مباشرا من دمشق، وقد احتشد نحو مليون شخص في المسجد الأموي وساحة الأمويين ، ومئات الألوف في ساحات المحافظات الأخرى، يحتفلون بسقوط بشار الأسد !
اتصلت بصديقي الحلبي، وسألته : هل تشاهد التلفزيون ؟ فاجابني : نعم فهي المرة الأولى التي أحس أن الكهرباء موجودة، وضحك وهو يردد : الشعب السوري كله خلية نائمة !
عدت إلى رواية (العمى) لجوزيه ساراماغو، وتمعنت جيدا في الفقرة الأخيرة من الرواية، حيث تنهض زوجة الطبيب ، وهي الوحيدة، التي نجت من داء العمى في المدينة، فتنظر من النافذة، لترى الناس وهم يصرخون ويغنون بعد أن عاد البصر إليهم، لكن الذي حصلبعدها ” أنها رفعت بصرها إلى السماء، فرأت كل شيء أبيض، إنه دوري، فكرت لنفسها، جعلها الخوف تخفض بصرها بسرعة ، فرأت المدينة لاتزال في مكانها” ص 318
بوابة الشرق الأوسط الجديدة