لاشكّ أنّ ماحدثَ في سورية صبيحةَ الثامنِ من كانونَ الأول ٢٠٢٤ يمثِّلُ لحظةً تاريخيّةً فاصلةً وحاسمةً ليس في تاريخ سورية وحدَها وإنّما في تاريخِ المنطقةِ والعالمِ، وهي لحظةٌ لن تقتصرَ على الحياةِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والعسكريّةِ فحسب، وإنّما ستنتقلُ إلى الثقافةِ والتربيةِ والتعليمِ والفنِّ، ولهذا فإنَّ الكاتبَ والأديبَ والمبدعَ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى بذلِ جهودٍ حقيقيّةٍ للارتقاءِ بالمشهدِ الثقافيِّ والإسهامِ ببناءِ ثقافةٍ أصيلةٍ قادرةٍ على مدِّ شرايينِها في الحقولِ المعرفيّةِ والمجالاتِ الاجتماعيّةِ والفنونِ الأدبيّةِ بمختلفِ أنواعِها وأجناسِها، فضلاً عن التأسيسِ الحقيقيِّ لثقافةِ الاختلافِ بعيداً عن الخلافِ والعنفِ والفُرقةِ والاستئثارِ بالرأيِ مِمّا يأخذُ المجتمعَ إلى الاحترابِ والاقتتالِ فيُفَرِّقُ الصفَّ ويُشتِّتُ جهودَ إقامةِ دولةٍ وطنيّةٍ يَنشُدُها جميعُ العقلاء.
لقد أثبتَتِ العقودُ الخمسةُ الماضيةُ أنّ ثقافةَ اللونِ الواحدِ القائمةَ على الإقصاءِ ماهي إلّا تأسيسٌ لحالةٍ من الجمودِ الفكريِّ والانسدادِ المعرفيِّ الذي من شأنِهِ أنْ يأخذَ المجتمعَ إلى بقعٍ سوداءَ ومَواقعَ ظَلاميَّةٍ لا يَرضى بها إلّا أصحابُ الفِكر ِالأسودِ والقناعاتِ المريضةِ.
لقد أثبتَتْ ثقافةُ العصبيّاتِ المريضةِ والانتماءاتِ المُجَزِّئةِ قدرتَها الفائقةَ على ضربِ الإبداعِ وتشويهِهِ وإبعادِ المُثقّفِ الحقيقيّ عن التفكيرِ بلحظةِ الإحساسِ الجماعيِّ التي غَدَونا أحوجَ مانكونُ إليها في الفِكرِ والإبداعِ والتربيةِ، بعيداً عن التخندُقاتِ والايديولوجيّاتِ المُتصارعةِ، فالمرحلةُ اليومَ تحتاجُ مَزيداً من العملِ الثقافيِّ والإبداعِ الحقيقيِّ القائمِ على حاجاتٍ مصيريّةٍ للمجتمع، وهذا لايَتحقّقُ إلّا من خلالِ تَحلّي المُثقّفِ والأديبِ بمزيدٍ من الشجاعةِ والصبرِ والجرأةِ التي افتقدَها لسنواتٍ طويلةٍ، وهو ما يرتكزُ بالضرورة على الاعترافِ بالآخر، الآخرِ القريبِ الذي تُعَزَّزُ به لُحمَةُ المجتمعِ، والآخرِ البعيدِ الذي لايمكنُ للنهضةِ المُرتقَبةِ أن تتحقّقَ بغيابِهِ وِفقَ مايراهُ الفرنسيُّ “آلان تورين”.
ممّا تقدَّمَ يُمكنُنا القولُ: إنّ ما حدثَ في سورية يومَ ٨-١٢-٢٠٢٤ سيكونُ له آثارُهُ الكبيرةُ على المشهدِ الإبداعيِّ والثقافيِّ في سورية، ومن شأنِ هذا الحدثِ الكبيرِ أنْ يُشكِّلَ مادّةً غنيّةً للكتّابِ والمبدعين، بمختلفِ انتماءاتِهم واهتماماتهم الأدبيّة، للكتابةِ عنه والبحثِ فيه وخاصّةً لجهةِ تحرّرهم من الاستعبادِ والاستئثارِ بالرأيِ الذي هيمنَ على الإبداعِ والثقافةِ في سورية لأكثرَ من نصف قرنٍ، كما أنّ هذا الحدثَ التاريخيَّ المفصليَّ ينبغي أن يُشكّلَ هاجساً كبيراً للمؤرّخينَ والباحثينَ وعلماءِ الاجتماعِ من أجلِ البحثِ فيه وسبرِ أغوارِه، لاسيّما لجهةِ مقارنتِه ببعضِ الأحداثِ التاريخيّةِ التي أدّتْ إلى سقوطِ حكّامٍ وأنظمةٍ شُموليّةٍ صادرتِ الثرواتِ وأحكمتْ سيطرتَها على الأفكار ِوالعقولِ سعياً منها لقتلِ كلّ إبداعٍ حقيقيٍّ وفكرٍ حُرٍّ، وهو ما أدّى إلى حالةٍ من الاستبدادِ السياسيِّ الذي وَلَّدَ قهراً اجتماعيّاً هدمَ الثقافةَ وأفسدَ أخلاقَ المجتمعِ، وهو ما تمَّ بمؤازرةِ أدواتِ السُلطةِ السياسيّةِ ومؤسّساتِ الإكراهِ والإخضاعِ التي سخَّرتْها السلطاتُ الحاكمةُ لفرضِ ثقافةِ الخنوعِ والخضوعِ والاستسلام.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة