أحوال الدنيا

“البراغماتية” ولون القط!!

د. فؤاد شربجي

‏ كثر ترداد كلمة (البراغماتية) في الآونة الأخيرة وتحمل العبارة أثناء تردادها شحنة إيجابية، كما تحمل الكثير من الخير إذا أخذنا سياق تردادها مع أنها لم تكن كذلك في عقود ماضيه بل كانت توحي بأنها “نفعية” على حساب المبادئ، أو تعني “الانتها زيه” لتجاوزها العقائد من أجل كسب أو مصلحة. فما هي حقيقة البراغماتية؟؟ هل هي المرونة التي لا تضحي بالمبادئ؟؟ أم أنها الواقعة التي تصحح العقائد والمبادئ من أجل التكيف مع الواقع؟؟ أم أنها عملية “تخلي نفعي” عن المبادئ والعقائد من أجل مكاسب ومنافع مقصودة؟؟ وهل يمكن أن تكون البراغماتية في خدمة الايديولوجيا أم أنها انقلاب على أيديولوجية وعقيدة أصحابها الاصلية؟؟

‏نشأت البراغماتية في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل على الأفكار المتعالية والفلسفات المثالية والمبادئ المجردة والعقائد المقدسة. من أبرز مؤسسيها تشارلز ساندرز بيرس الذي أعتبر أن (معنى أي فكرة “أيدلوجية” يكمن في آثارها العملية). وأفكار البراغماتية الرئيسية عبر الأزمان ركزت على أن (الحقيقة ليست مطلقة بل تتغير حسب النتائج العملية). وأن (الايديولوجيا يتم تقييمها بناء على فعاليتها). أي أن لا أفكار ولا مبادئ ولا عقائد ولا ايديولوجية تتعالى او يمكن أن تكون متعالية على البراغماتية بل هي خاضعة لها. وهكذا فقد أثرت البراغماتية على التعليم والعلوم والاقتصاد. واهم تأثيراتها كان على السياسة والسلطة والحكم.

‏يبدو أن البراغماتية أو النفعية قد تغلبت ونسفت الايديولوجيا والعقائد الصلبة التي سادت منذ القرن العشرين، مثل الشيوعية، الرأسمالية، الفاشية، القومية، الإسلاميوية. ولم تعد هذه العقائد أو الأيديولوجيات هي المحرك. وبدأت البراغماتية بالتسلل إلى السيطرة منذ أن قام فرانكلين روزفلت باعتماد (الصفقة الكبرى) التي مزج فيها الرأسمالية بنظريات أخرى مناقضة لتحقيق المنفعة الأمريكية. أما الرئيس نكسون فرغم عدائه الشديد للشيوعية قام بزيارة الصين في العام 1972 وتعاون مع نظامها الشيوعي المناقض له و لسياساته. والصين نفسها ذات العقيدة الشيوعية الصلبة لحقت ب (دو شياو بينغ) الذي سجنه (ماوتسي تونغ) لأنه سخر من لون الثورة الأحمر عندما قال (ليس مهما لون القط.. المهم أنه يصطاد الفئران).

لحقت الصين بطروحات شياو بينغ وتزوج النظام الشيوعي الصيني من الاقتصاد الرأسمالي الغربي من أجل المنفعة. بالمقابل فإن الرئيس أوباما رئيس أكبر دولة رأسمالية لجأ إلى “الحمائية” التي هي إجراء وأسلوب اشتراكي في معالجته للأزمة المالية في العام 2008 . وحتى أصحاب العقائد المقدسة مثل الإسلاموييين اتبعوا البراغماتية ومنافعها كما فعل الإخوان المسلمون في مصر خلال حكم مرسي. فقدموا خطابا يظهر قبولهم التعددية والديمقراطية رغم تمسكهم الضمني بالدولة الإسلامية التي ترفض كل ذلك. بالمقابل فإن أمريكا العلمانية تعاونت مع الجهادين الإسلامويين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي رغم تناقضها الإيديولوجي مع سلوكهم وعقائدهم. وحتى الآن تتعاظم قوة البراغماتية لما تحققه من منافع للحكام والحكومات. وباتت البراغماتية التكتيكية أكثر انتهازيه، وأوسع خداعا وتضليلا، لحماية ومنفعة العقائد المتسترة بها، والمختبئة فيها، والملونة بألوانها. ولم يعد لون البراغماتية مهماً طالما أنها تصطاد السلطة وتعزز السيطرة وتحقق المصلحة السياسية وتحفظ الحكم والحاكمين.

‏إنه عصر البراغماتية والمنفعية والمناورة والتضليل والشعبوية. ومن قال إن البراغماتية لا تتضمن وتضمر وتحمي الأيديولوجية. وإن كان فيها من إيجابية أو خير فهي إيجابية للحكام وخير للسيطرة والمسيطرين….. لذلك ليس مهما لون البراغماتية طالما أنها تصطاد المنفعة لأصحابها. فمن يعيد البراغماتية إلى رشدها لتكون بحق مرونة واقعية تخدم الشعوب مهما تغيرت الظروف وكيفما تبدلت الأحوال؟؟؟!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى