«الفلسفة والسلطة»… تناقضات شائكة عبر التاريخ

يناقش كتاب «الفلسفة والسلطة»، الصادر عن دار «إضاءات» بالقاهرة للأكاديمي والمفكر المصري الدكتور حسن حماد، واحدة من أكثر القضايا الشائكة إلحاحاً في تاريخ الأفكار، فرغم أن السلطة تتعارض من حيث المبدأ مع مفاهيم الحرية والتلقائية والإبداع وتسعى لإخضاع الأفراد لنوع من الضبط والقمع والسيطرة، فإن آلياتها تختلف من عصر إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.
والسلطة التي يعنيها المؤلف في سياق الكتاب لا تنحصر فقط في سلطة الأنظمة السياسية أو المؤسسات الدينية، بل هي ذات أوجه كثيرة ومتعددة مثل سلطة القديم والموروث والعادات والتقاليد، سلطة السائد والمألوف، سلطة الرأي العام أو الحس العام، سلطة الحشد أو الدهماء، وأخيراً سلطة وسائل الدعاية والإعلام والإعلان.
ولا يمكن الحديث عن الأنماط الجديدة للسلطة دون ذكر «سلطة عالم السلع» بخاصة مع هيمنة عالم السوق على الإنسان، وهي تنطوي على نوع من التشيؤ الذي بمقتضاه تتحول حياة البشر وقيمهم ومثلهم وأحلامهم وفنونهم سلعاً أو أشياء تتخفى وتتقنّع من خلال وسائل الدعاية والإعلان في صور وأشكال سحرية وأسطورية وهمية جذابة، تتحول بفعل التكرار أو الممارسة رموزاً طقوسية أو شعائرية مقدسة.
وتسعى الفلسفة منذ بداية تاريخها الطويل إلى مواجهة السلطة، خصوصاً في صورها التقليدية، سلطة الآيدولوجيات السياسية وسلطة الفكر الديني المتطرف، حتى أن كثيراً من الفلاسفة دفعوا حياتهم ثمناً لهذا الصراع أو على الأقل تعرَّضوا للتعذيب والنفي والتشريد والاضطهاد، مثل سقراط ، الحلاج، السهرودي، جوردان برونو، روزا لوكسمبرغ.
ويشير الكتاب إلى أنه من اللافت أن علاقة الفلسفة بالسلطة ليست دائماً علاقة صراع أو صدام، فأحياناً ما يستسلم بعض الفلاسفة لسحر الآيديولوجيات وإغراء مصاهرة أصحاب القرار، فيقنعون بالجلوس تحت أقدام السلطان ويتنازلون عن حريتهم وإنسانيتهم ويتخلون عن رسالتهم ويتحولون آلاتٍ تنطق بلسان السلطة وتروج لشعاراتها وتدعو لأكاذيبها. ومن حسن الطالع أن من مارسوا هذا الدور في تاريخ الفلسفة قلة نادراً ما يذكرها التاريخ.
وتنبع علاقة الفلسفة المعقدة بالسلطة إذا تذكرنا أن المعرفة نفسها سلطة؛ ولذلك فكثيراً ما يساء فهم الفلاسفة عندما يتم تفسير وقراءة أعمالهم من خلال الآيديولوجيات السياسية. ولهذا السبب ذهب بعض الباحثين إلى أن فلسفات هيغل ونيتشه وهيدغر، كثيراً ما تستند إلى الانتقائية في اختيار النصوص وتتسم بالتسرع والمبالغة، وهو قول يحتاج إلى المزيد من الدراسات المتأنية والمدققة. فقد يقصد الفيلسوف شيئاً غير الذي يريده السياسي أو رجل الحكم، فلا بد من أن نعترف بأن هناك مسافات كبيرة تفصل بين الفكر والواقع؛ ولذلك فإن الزعم بأن الفكرة الفلسفية يمكن أن تتحول مباشرة فعلاً على أرض الواقع أمر وهمي تماماً؛ لأن الواقع له قوانينه الخاصة التي كثيراً ما تتعارض مع قوانين الفكر المثالية المتجاوزة بطبيعتها للواقع القائم.
وعلى هذا النحو، يرى المؤلف أن التعرض لتاريخ علاقة الفلسفة بالسلطة ينبغي ألا يتناول المسألة من جانبها الأحادي، فمن الخطأ تصور أن الفلسفة في العصور الوسطى كانت كلها خاضعة للدين، ومن السذاجة أيضاً تصور أن الفلسفة كانت في عصرَي النهضة والتنوير مناهضة تماماً للسلطات القائمة. ولا بد للفيلسوف أن يصطنع مسافة بينه وبين الواقع القائم ولا يجب أن يستسلم لإغواء التصالح مع السلطات القائمة، فتاريخ الفلسفة يبرهن على أنها تتمرد دائماً على واقعها وترفض الاستسلام لقواعد اللعبة، لعبة القهر والتسلط لترفع دائماً راية العصيان في أزمنة الخضوع والإذعان.
وتبرز في هذا السياق الكثير من أوجه التناقض الحاد بين السياسة والفلسفة، فالأولى ترتبط بكل ما هو «جزئي»، بينما الأخرى تتخذ من الجزئي نقطة بداية للوصول إلى «الكلي». والسياسة تؤكد الوضع القائم أما الفلسفة فتنفيه لأنها ترى اللحظة القائمة لحظة زائلة، وهكذا نجد أن الفلسفة تنزع إلى المثال، وهي بهذا تؤسس لحلم المدينة الفاضلة أو «اليوتوبيا» بينما السياسة لا تحيا إلا في الواقع.
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية