
الجزء الثالث
بعد هذا العرض التحليلي لأسباب ودلالات تمركز الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، من الضروري أن نخلص إلى مجموعة من الاستنتاجات الجوهرية والمقترحات الواقعية التي تساعد في فهم أعمق لما يجري، وفي التفكير بمسارات بديلة للخروج من دوامة الدم والانقسام.
1. الحروب ليست عشوائية، بل موجّهة
تمركز الحروب الأهلية في المنطقة لا يمكن تفسيره فقط بانفجارات داخلية مفاجئة أو أحداث تاريخية معزولة، بل هو جزء من منظومة دولية تعيد إنتاج مصالح القوى الكبرى على حساب الشعوب. القوى المهيمنة تستثمر في ضعف الدولة وانقسام المجتمع، وتحول الصراعات المحلية إلى أدوات في صراع عالمي أكبر.
رغم التأثير الهائل للعوامل الخارجية، فإن الهشاشة الداخلية هي التي تجعل التدخل الخارجي ممكنًا وفعّالًا. أنظمة الحكم السلطوية، وغياب العدالة الاجتماعية، وضعف مؤسسات الدولة، كلها تُسهم في تحويل أي أزمة سياسية إلى نزاع دموي.
ما يُفترض أن يكون نعمة (النفط، الغاز، الموقع الجغرافي) يتحول إلى لعنة عندما لا تكون هناك سيادة حقيقية، ولا إدارة وطنية للموارد. هذه الثروات تصبح هدفًا للقوى الكبرى، ومحورًا للتنافس الإقليمي، بدلًا من أن تكون وسيلة لبناء التنمية والرخاء.
ضعف المنظومة العربية الجماعية، وعجز الدول عن التنسيق لاحتواء الأزمات أو تقديم حلول جماعية، ساهم في تعميق النزاعات. لم تكن هناك إرادة حقيقية لبناء نظام إقليمي يُحصّن الدول من التدخل الخارجي، أو يساعد على تسوية النزاعات داخليًا.
لا يمكن الخروج من دائرة الحروب الأهلية دون إعادة بناء الدولة على أسس شرعية، ديمقراطية، ومؤسساتية. دولة القانون، والفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات، هي الأساس لخلق عقد اجتماعي يُنهي منطق العنف والانقسام.
2. إنهاء التدخلات الخارجية عبر استقلال القرار
من الضروري أن تسعى الدول والشعوب إلى استعادة سيادتها الفعلية، ورفض الارتهان للأجندات الإقليمية والدولية. وهذا يتطلب وعيًا سياسيًا ناضجًا، وبناء تحالفات وطنية عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق.
بعد سنوات من الحرب، لا يمكن التقدم دون معالجة الجراح المفتوحة. يجب اعتماد مقاربات للعدالة الانتقالية، تُحاسب المسؤولين عن الجرائم، وتُعيد الاعتبار للضحايا، وتفتح المجال للمصالحة المجتمعية على أسس الحقيقة والعدالة.
إعادة تشكيل وعي الأجيال الجديدة ضروري لوقف إعادة إنتاج الكراهية والانقسام. التعليم الذي يُنمي المواطنة والانتماء الوطني، والإعلام الذي يُروّج للتسامح والحوار، أدوات لا غنى عنها في بناء مجتمعات مقاومة للعنف.
يجب إعادة التفكير في النظام الإقليمي العربي، وتطوير آليات فعالة لحل النزاعات، وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بين الدول. لا يمكن لأي دولة أن تبني السلام وحدها، فالاستقرار في المنطقة مشروع جماعي.
إن الحروب الأهلية التي تمركزت في الشرق الأوسط ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي مرآة لعقود من الفشل في بناء أنظمة عادلة، ومجتمعات متماسكة، وسياسات مستقلة. لكنها أيضًا نتيجة لمشروع عالمي لا يزال ينظر إلى هذه المنطقة باعتبارها مصدرًا للثروات، وميدانًا للهيمنة، لا فضاءً لحقوق الإنسان والتنمية.
غير أن الخروج من هذه الحالة ممكن. ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلًا. يتطلب ذلك إرادة سياسية وطنية، ووعيًا شعبيًا جماعيًا، وتحالفًا بين القوى المدنية والفاعلين الإقليميين والدوليين الراغبين فعلًا في بناء السلام لا استثماره.
فالمستقبل لا يُكتب بالحرب، بل بالعدالة، ولا يُبنى بالدمار، بل بالتعليم والتنمية والكرامة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة