أحوال الدنيا

الدراما: من ابداع الخير العام، إلى تسلية الشرير الظريف!!

د. فؤاد شربجي

في الأسبوع الماضي. كتب المفكر العربي الدكتور مأمون فندي. وهو أستاذ جامعي يدرس الفكر السياسي في كبريات الجامعات البريطانية والأمريكية،  كتب عن أهمية الدراما التلفزيونية في خلق القيم الاجتماعية، ‏وفي تحديد توجهات المجتمع. ولكونه باحث في علم الاجتماع السياسي فقد ركز ‏على تأثير الدراما في تعميق ‏فكرة (الاستغناء عن الدولة واستبدالها بفكرة البطل الفرد. لتسيير أمور المجتمع وحل مشكلاته) واعتبر أستاذنا أن (ما نتحدث به ‏نهارا عن بناء الدولة نلغيه مساء بالدراما التي ترسخ فينا هدم الدولة واستبدالها ببطل فرد) غالبا ما يكون مجرماً.

‏وللتدليل على فكرته استشهد بعدد من المسلسلات التي عرضت في رمضان. وهي الأكثر رواجا وشعبية كـ (العتاولة وجعفر العمدة) ويمكن أضافة ( حكيم باشا وإش إش وسيد الناس) وهذ المسلسلات المصرية لها ما يماثلها من المسلسلات السورية و اللبنانية. وكلها أكدت فكرة الدكتور. ‏حيث أن البطل فيها خارج عن القانون وأزعر. لكن هذا البطل للمفارقة، حكيم، وذكي، ورحيم على الضعفاء ومجرم تجاه الأخرين ومتحكم بمجتمع ‏الدراما ‏المقدمة بغياب للدولة أو بحضور باهت لها. وبذلك فإن ما يقدمه أستاذنا هو دراسة الدراما التلفزيونية الراهنة ‏والحية. وهو بحث في تأثيرها على المجتمع من حيث تحديد توجهاته في إدارة ناسه. وهذا ما يبرز مدى خطورة ما يقدم على قناعات وأفكار وايديولوجيا المجتمع المتلقي لهذه الدراما. ‏وبدلا من تحفيزه لبناء الدولة العادلة الديمقراطية الحديثة. تشحنه الدراما بالتعلق ببطل فهلوي ظريف حتى لو كان خارجا عن القانون، أو له تاريخ إجرامي.

‏بالفعل لم يبقى للمشاهد الشعبي إلا متعة الدراما التلفزيونية الفنية. وباتت هذه الدراما تشكل الثقافة الشعبية الأكثر انتشارا وتأثيرا. من هنا صارت الدراما أحد أهم عوامل تشكيل الضمير الشعبي. وبعد أن حفلت حقبة ‏الثمانينيات والتسعينيات بأعمال حملت في متعتها الفنية الجذابة محتوى ثقافيا يسهم في (بناء الخير العام الوطني والحضاري) في ضمير الشعب المتلقي. ولكن هذه الحقبة من الدراما الفنية والجاذبة بمحتواها الإنساني والحضاري، جرى تجاوزها إن لم يكن إبعادها، في العقدين الماضيين. ‏وبدلا منها جرى ترسيخ دراما (تأليه النجم البطل).. المعتمدة على إبراز البطل المتحكم بكل المجتمع. وجرى اعتماد الشر والعنف والجريمة والمخدرات كوسيلة تسلية مشوقة. ‏وهذا ما تم إنجازه عبر منتجين تابعين أو أميين، وباستخدام مخرجين سطحيين ومدعين (مع الاحترام للمبدعين من المخرجين). وباستبعاد المؤلف الخالق للعمل ومعناه من عملية الإنجاز ‏الإبداعي. وبذلك انتقلنا من فن الدراما التلفزيونية الجذاب ذو المحتوى الثقافي الباني للخير العام إلى فن التسلية الخاضع لمتطلبات النجم البطل المتحكم. وغرقنا في محتوى الشر الملبس بجمالية الفن. ‏وما تضييع فكرة بناء الدولة العادلة والخيرة لصالح البطل الفرد المتحكم والفهلوي والظريف إلا سقوط في تأسيس الفوضى كإيديولوجية خفية في ضمير المتلقي-الشعب.

‏فعلا الدكتور فندي على حق في أن الدراما التلفزيونية المؤلهة للمجرم الظريف والفهلوي والمحبوب ترسخ ايديولوجيا الفوضى، ويضيع الحض على بناء الدولة واحترام القانون والانضواء في المؤسسات. وهو بالفعل على حق في هذه النقطة إلا أن حال الدراما ‏التلفزيونية الحالية يجعلها أيضا تضيع، ليس فكرة بناء الدولة، بل جعلها أيضا تضيع فكرة بناء الخير الإنساني العام. وهذا ما يبقي مجتمعاتنا مشوهه في ضمائر أفرادها. وهو الأمر الذي يستلزم العمل على إعادة الروح الإبداعية الأصيلة لهذا الفن المؤثر والمنتشر. وهذا ما يستلزم أولا ‏ معرفة كيف وصلنا إلى هذا الدرك من تضييع ابداعنا كمقدمة لاستيضاح طريق استعادة عمران الدراما التلفزيونية الإبداعية الجذابة والأصيلة.

إعادة عمران الإبداع الدرامي التلفزيوني ضرورة لعافية وحصانة الضمير الشعبي الوطني القادر على تجديد وإعادة بناء الدولة .

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى