نوافذ

شكسبير لا يشتم

مقبل الميلع

إيطاليا -ميلانو

كنتُ أظنني أملك من حظّ السفر ما يكفي لأزعم أنّ السماء صارت بيتي. فمنذ شبابي وأنا أتنقّل بين أكثر من أربعين دولة: من أسواق إسطنبول المضمّخة بالبَخور، إلى معابد كيوتو التي تُصغي للخشب حين يتقادم، مروراً بشوارع بوينس آيرس التي تُغويك بالتانغو عند كلّ إشارة مرور. وكنتُ أعود في كلّ مرّة محمّلاً بحقيبةٍ لا تمتلئ بالثياب بل بالقصص والعادات وروائح العواصم البعيدة. غير أنّ مقامي الأخير في كاليفورنيا، على حافة الهادئ، أثقل صدري؛ فالعمل يبتلع نهاراتي، والأخبار القادمة من شرقٍ يشتعل بالحروب تلتهم لياليَّ. حين بدأ الاكتئاب يطرق الباب، قلت لنفسي: لعلّ رحلةً تُداوي ما أفسده روتين المدن العظيمة.

تذكّرتُ شكسبير، ذلك الساحر الذي ترك في أرواحنا مقاعد دائمة لهاملِت وعُطَيل والملك لير وتاجر البندقية. قلت: لِمَ لا أُصافح المدينة التي زُعم أنّ شايلوك وُلِد على أرصفتها؟ حجزتُ تذكرة إلى ميلانو، حيث يقيم صديقٌ قديم، لأجمع بين زيارته واكتشاف إيطاليا. اثنتا عشرة ساعة تحت أجنحة المعدن ألقت بنا أمام كاتدرائية الدومو؛ رخامٌ يُضيء، ولوحاتٌ تحمل توقيعات أساتذة النهضة. ومن ساحة السوق المغلقة، حيث الماركات تُغرينا كما تُغري البندقيةُ البحر، تذوّقتُ بيتزا لا تشبه ما نأكله في المهجر، كأن زيت الزيتون فيها يُصلّي بلغةٍ سرّية.

لكنّ شهوة الطريق دفعتنا نحو «مدينة الجسور». ركن صديقي سيارته بعيداً، فمن أراد دخول البندقية عليه أن يخلع عجلاته ويرتدي قدميه. على الضفاف، تسللت إلى أنفي رائحةُ الأزمنة؛ همستُ: «شممتُ شكسبير هنا». ابتسم صديقي وقال: «لا تَخدعك الرومنسية، فمعظم أهل المدينة أحفاد شايلوك بطريقةٍ أخرى: لصوصٌ بربطات عنقٍ حريرية». ظننته يمزح حتى ابتلعت آلةُ الصرّاف بطاقتي. كان البنك مغلقاً، وصوته عبر الهاتف بارداً كحجر القناة: «عليك إيقاف البطاقة من أميركا». خرجتُ خفيفَ الجيب، ثقيلاً بالحيرة، أمشي بين قنواتٍ تلمع كأنّها مصقولةٌ بدموع البحّارة القدامى.

قلنا: لنأكل. قفزنا إلى جندولٍ يتهادى كفكرةٍ شاعرية، تتكسّر أمواجُه على جدرانٍ عتيقة. في مطعمٍ أنيق طلبنا سمكاً، فجاءنا طبقٌ تسبح فيه خيبتنا أكثر من أيّ بحر. دفعتُ فاتورةً يمكن أن تُطعم أسرةً كاملة في مدينه دمشق ، ثم خرجنا لنستقبل عاصفةً هبّت كأنها تأديبٌ إلهيّ على سذاجتنا. مطرٌ بارد، ريحٌ تشلع المظلّات، ودهشةٌ ترتجف عند كلّ منعطفٍ من الأزقة المائية. حين بلغنا السيارة كنا غارقَين حتى عزيمتنا، وعدنا إلى ميلانو بصمتٍ لا يقطعه سوى تنهداتي وصوت ماسحات الزجاج.

في المساء، سألته: «هل شتمت شكسبير أخيراً؟» هزَّ رأسه وقال: «أكره الإنكليز جميعاً، لكنّ شكسبير لا يُشتَم». عندئذٍ أدركتُ أنّي، رغم السرقة والعاصفة ووجبة السمك المجهولة، لا أملك إلا أن أُجلَّ من نحت اللغة فأضاءها، وترك للبشرية ميراثاً تتغذّى عليه المسارح. السفرُ، يا صاحبي، يُشبه نصّاً مفتوحاً؛ أبطاله نحن، ومآلاته تُكتب على الطريق. وإنْ عضّك شايلوك في زاويةٍ مائية، فثمّة نصٌ آخر ينتظر أن يُروى، وثمّة ندبةٌ تذكّرك بأنك حيّ. وعلمتني تلك الرحلة درساً أخيراً: أنّ المدن كالمرايا، تردُّ لك وجهك بحجمه الحقيقي، جميلاً كان أو متعباً؛ والمهمّ ألا تنكسر المرآة في القلب.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى