في انتظار روسيا الاتحادية! (عبدالمنعم سعيد)

 

عبدالمنعم سعيد

جلست أتابع باندهاش برنامج الصديق عماد الدين أديب «بهدوء» عن تقييم الحالة الروسية مع ثلاثة من المعلقين المتخصصين: د.عبدالمنعم المشاط، د. مصطفى اللباد، د.نورهان الشيخ. الأربعة، المحللون ومدير الحوار، من المشهود لهم بالمعرفة في مجال العلاقات الدولية والإقليمية، وربما إذا اجتمعوا في مكان آخر، وحول موضوع مختلف، فربما كان الاتفاق بينهم صعبا. ولكن، هذه المرة جرى ما لا يحدث عادة في الحوارات التلفزيونية، حيث توافق الجميع على أن الروس قادمون، وأن انتعاشا كبيرا بعد موات الاتحاد السوفياتي قد جرى في روسيا الاتحادية، حتى إنها مرة أخرى باتت قادرة على المناطحة مع القوة العظمى الأخرى في العالم أو الولايات المتحدة الأمريكية. الدليل البادي على ذلك هو ما ظهر من الحركة الزائدة لروسيا خلال الفترة الماضية في الشرق الأوسط، التي توجها تفوقها على الدبلوماسية الأمريكية خلال الأزمة السورية عندما نجحت روسيا في تفادي الضربة الأمريكية لدمشق عن طريق صفقة تصفية الأسلحة الكيماوية السورية.
الموقف الروسي من مصر وما يجري فيها، والتراجع في القوة الأمريكية أضافا إلى حجج الحديث عن توازن عالمي جديد يعيد المنطقة والعالم إلى الأيام السعيدة للحرب الباردة، ويخرج الدنيا بأسرها من هيمنة وسيطرة القوة الأمريكية الواحدة.
الحجج كلها، ولا شك، لها مشروعيتها وجدارتها الذاتية، فجماعتنا المشاركة في الحوار كانت تعلم ما تتحدث عنه، ولكن المدهش في الموضوع كان كيف يمكن تحقيق الدبلوماسية الروسية انتصارا في معركة سياسية تنتهي بنزع السلاح الاستراتيجي للحليف الإقليمي؟ وقف الضربة الأمريكية – المحدودة – لا يقدم انتصارا لأحد، بل إن وضعها في إطار استراتيجية متكاملة تجعلها تحقق أهدافا بعيدة المدى دون إطلاق طلقة واحدة – يجعل النصر واقعا على الجهة الأخرى من المحيط الأطلنطي. كانت الاستراتيجية الأمريكية واضحة، فهي تريد تقليم الأظافر السورية، سواء بضربة محدودة تعيد تركيب توازنات القوى الفعلية في ميدان القتال، أو بنزع أهم الأسلحة السورية ليس فقط في مواجهة المعارضة، وإنما، وربما كان ذلك هو الأهم، في مواجهة إسرائيل. الخلط بين التهديد بتوجيه ضربة صغيرة، واقتراح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بتفادي الضربة عن طريق نزع السلاح الكيماوي، وتلقف لافروف وزير الخارجية الروسي الاقتراح – كان يعكس لهفة روسية على الخروج من الأزمة حتى دون تشاور واضح مع الجانب السوري. وسواء كان ذلك تم بترتيب بين أوباما وبوتين خلال قمة العشرين، أو تم بالطريقة المسرحية بين كيري ولافروف، فالنتيجة واحدة وهو أن التنازل الاستراتيجي، قد تم من الجانب الروسي – السوري، وأن التهديد باستخدام القوة العسكرية ربما يغني أحيانا عن استخدامها بالفعل.
ولكن الحماس للدور الروسي «الجديد» له ما يبرره فيما حدث لروسيا منذ تولي بوتين للسلطة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، كما يبرره حالة للشوق عربية لعودة العالم مرة أخرى إلى الانقسام القطبي بين موسكو وواشنطن الذي كنا نعرف كيف نلعب على أحباله. ما حدث لروسيا كان كثيرا، خاصة بعد الانهيار العظيم الذي جرى للاتحاد السوفياتي وتفكك الامبراطورية الروسية الشيوعية، التي ظهر منها ما جعلها واحدة من الكوميديات التاريخية حينما أخفت ملكية الأسلحة النووية والصواريخ عابرة القارات وغزو الفضاء عورات دولة كانت في حقيقتها من دول العالم الثالث اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا وسياسيا. تغيرت روسيا التي لا تزال كبرى دول العالم من حيث المساحة (أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع)، ومن كبراها من حيث عدد السكان (143 مليونا).
وبشكل ما فإنها أصبحت من الدول متوسطة الغنى، حيث يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي أكثر قليلا من تريليوني دولار، مقارنة بأكثر من 5 تريليونات للصين و15 تريليونا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. ولكن عدد سكانها جعل نصيب الفرد من الناتج المحلي عام 2008 يساوي 640 دولارا شهريا، وارتفع إلى 998 دولارا شهريا عام 2013.
وربما تعكس الاحتياطيات القومية تلك الحالة من التحسن المستمر في الاقتصاد الروسي، حيث انخفض معدل الفقر مقاسا بدولارين في اليوم من 43% عام 1998 إلى 13% عام 2013، كما ارتفعت الاحتياطيات القومية من 12 مليار دولار عام 1999 إلى 3.597 مليار عام 2008.
كان ذلك كله راجعا إلى سياسات رأسمالية صريحة محفزة للاستثمارات الداخلية والخارجية، أهمها أن الضريبة باتت مقطوعة بنسبة 13 على الدخول.
ولكن هذا التقدم الاقتصادي الهائل لم يضع روسيا بعد في صفوف الدول العظمي، حيث توازنات القوى في النهاية ذات طبيعة نسبية.
فرغم القفزة الكبيرة في الاقتصاد الروسي، فإنه لا يزال معبرا في جوهره عن دولة من دول العالم الثالث، حيث تعتمد على البترول والغاز والمعادن في 80% من الصادرات. ويكاد المرء يشقى بحثا عن سلعة صناعية روسية مشهورة في السوق العالمية، خاصة ما تعلق منها بالتكنولوجيات الحديثة في الاتصالات أو الهندسة البيولوجية أو السيارات أو غيرها.
الأخطر من غياب الابتكار والمبادرة، أن الفساد يعد من الملامح الرئيسة للدولة الروسية، حيث تشغل المكانة الثانية بعد أوكرانيا بين الدول الأوروبية في قائمة المنظمة الدولية للشفافية.
ولا يخفى على أحد أن النظام السياسي الروسي بتداول الرئاسة فيه بين ميدفيديف وبوتين، وكذلك رئاسة الوزراء، وبالطريقة التي تم بها خلال السنوات الماضية، لم يعد ملهما لأحد في العالم.
مكانة الدولة العظمى في العالم لا تمنح إلا استنادا لحزمة من المعايير التي قد يكون الجانب العسكري فيها له أهمية خاصة، ولكنه ليس بالتأكيد العامل الحاسم، فالاقتصاد والتكنولوجيا، والقيم السياسية الملهمة، ونموذج الحياة المثير للخيال، هي أيضا عوامل لا تقل أهمية.
مثل ذلك لا ينبغي التغاضي عنه عند الحديث عن توازنات القوى العالمية، فهذه لا تدور حسب الأمنيات الجارية وإنما حسب الحسابات الدقيقة لعناصر القوة المختلفة.
الأهم من ذلك، أن فترة القطبية الثنائية في العالم لم تكن سعيدة بالمرة بالنسبة للعالم العربي، بل إنها كانت الفترة التي شهدت، ليس فقط بداية القضية الفلسطينية واحتلال فلسطين وسيناء والجولان، وإنما انقسام العرب ونشوب الحرب الباردة بينهم.
وربما كان أهم الأخطاء العربية هو اعتبار الصراع السياسي على القمة بين الدول العظمى بديلا عن عملية بناء عناصر القوة الذاتية العربية. فالمسألة السورية ليست قضية روسية أو أمريكية وإنما هي عربية في المقام الأول تحتاج إلى اجتهاد أكثر من عودة الدب الروسي لإنقاذ سوريا التي طال نزيفها.

صحيفة الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى