ممكن ممازحة القداسة ؟
ممكن ممازحة القداسة ؟
في السلام…الأبناء يدفنون آباءهم.
أما في الحرب… فالآباء يدفنون أبناءهم.
من زمن خالد بن الوليد… درجت شخصنة الأماكن، وامتلاك سلطتها المعنوية المؤبدة فلأن السيد خالد ـ أثناء فتح دمشق ـ كان يعسكر إلى جانب “دير صليبا” بالقرب من باب شرقي… سموه “دير خالد” حتى يومنا هذا.
وأنا، من يوم انكسر سن الرسول محمد في” معركة أحد” بسبب خالد بن الوليد (الذي كان آنذاك كما تعلمون في صفوف المشركين) لم أحب هذا الرجل، وفيما بعد، علمت أنه لم يقبل بدخول دمشق”سلماً”، مع أن الدمشقيين الروم عرضوا عليه ذلك. في حين قبل أبو عبيدة بن الجراح ـ قائد الجيش . الأمر الذي أدى إلى مجزرة في منطقة دخول خالد . وإذلال سكان المدينة داخل الأسوار .
ولترقيع هذه المخالفة الفادحة… جرى تلفيق عدة روايات، من بينها، حكاية الجواسيس الذين أخبروا خالد، منتصف الليل، بأن البطريق ” “نسطاس بن نسطوس” قد ولد له غلام، وأنه قد أولم وليمة لقادته فسكروا وأكلوا وتركوا الأسوار بلا حراسة . فدخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي، وأعمل السيف بأهل دمشق، فيما أبو عبيدة يدخل من الأبواب الأخرى سلماً، بناء على اتفاقه مع الحامية والسكان. الأمر الذي اغضب أبا عبيدة، وباقي أمراء الجند المسلمين، لأنهم أعطوا الأمان للسكان من الجهات الأخرى والأبواب الأخرى للمدينة.
ولكن بعد فوات الأوان.
قالوا لخالد: لقد أمنّاهم.
وقال خالد: إني فتحتها عنوة.
والعنوة تعني نصف الغنائم، بينما الأمان يعني الجزية فقط.
……………………………
قبل ثلاث سنوات… دعاني أصدقاء من مدينة “صدد” (مدينة شرقي حمص السوريه ) إلى مهرجانها السنوي. وكانت المفاجأة بمدينة حديثة في قلب الصحراء. عمرها ألفا سنة قبل الميلاد. وفيها كنائس قديمة سريانية، وسكانها عشرة آلاف. ومن أكثر المدن تمدناً، ونسبة تعليم عالي…
كما أن في هذه المدينة إحدى لمسات التاريخ الغريبه… قبر أبو فراس الحمداني، الشاعر والفارس الحلبي، ابن عم سيف الدولة، وهي معلومة جديدة بالنسبة لي ترسم بيئة الشعر الوداعي الأخير لأبي فراس:
أبنيتي…لاتجزعي كل الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة من خلف سترك والحجاب
قولي إذا ناديتني وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبوفراس لم يمتع بالشباب
( لكن “أبو فراس طلاس”، وزير الدفاع، نقله إلى حمص.. ولانعرف السبب . وقيل لأنه مسلم مدفون في قرية مسيحية !)
وحتى الآن لا نعرف ما الذي فعلته جبهة النصرة بصدد بعد اجتياحها.
هذه المدينة تقيم مهرجاناً سنوياً لا كالمهرجانات التي لها برنامج يبدأ وينتهي، بل هي توقظ حياة احتفالية متصلة، وقد لا يقطعها النوم، ولا مجيء الصبح، ولا دوام الوظائف. وهذه الحياة الاحتفالية لا تقترب عشوائيتها البريئة من نظام المواعيد للفعاليات: كحفلة الغناء، أو الموسيقى، أو أمسيات الشعر، والمسرح…
كانت الكنيسة هي المكان الذي ألقينا فيه قصائدنا. وكان الحضور يصغون بانتباه واضح، كأنما في قداس. ولا أظن أنني كنت راضياً عن أمسية شعرية، اشتركت فيها، كما كنت في ذلك المساء البعيد، في صدد. والآن أتذكرها باستعادة انفعالية بسبب ماحل بها!
لم يكن هناك مكان مخصص لنومنا… كفندق أو بيوت ضيافة. بل نمنا حيث سهرنا، في جو صداقة، ومحبة، وفهم وتقدير لكل شيء يحدث في هذه البلدة طيلة أيام المهرجان.
سألت أحد الأصدقاء: كيف تفسر لي وجود وبقاء هذه المدينة بشكلها ومضمونها، وطبيعتها، وازدهار نموها… في هذه الصحراء، وبين خيام افتراضية وسط سراب البيداء؟
أكثر من جواب جدي .
وأكثر من معلومة دقيقه .
وأكثر من فكاهة لطيفة …
حول هذه المدينة اللطيفة.
لكن آخرها، كان هذا الجواب الراقص:
“لأن خالد بن الوليد لم يمر، من هنا، في طريقه إلى حمص !! ”
2.11.2013