أدب الترحال
أدب الترحال… الجغرافيا دليل لا يقبل التأويل على نمو الإنسان وبلوغه، هذه واحدة من الأفكار التي كانت تأتيني في أول مراهقتي من حيث لا أدري دائمًا، لكنها الفكرة الوحيدة التي لعبت في رأسي كثيرًا وانزرعت في قلبي.. كنت قبالة النهر أتأمل مجاميع طيور مهاجرة إلى أو عائدة من بقاع لا أعرفها، في انتظار أصدقاء لم يعد أحدهم حيـًّا الآن، واعتقدت أنّي سأنسى الفكرة بعد سباحتنا في النهر ولهونا وعودتنا إلى أهالينا قبل غروب الشمس، لكنها عاشت معي، وكل عام يضيف برهانًا جديدًا على صحتها! فجغرافية المولود الجديد حضن أمه وكلما نما قليلا توسعت جغرافيته لينحدر من سريره إلى أرض الغرفة ثم المطبخ فالبيت كله، ومن باحة المنزل إلى الشارع فالمحلة ومن هناك إلى محلات أخرى، فالمدينة والبلد كله ومن هناك إلى بلدان لم يسمع بها من قبل، وأكثرنا نضجا، لا بد أن يسبح في الفضاء مع رواده البواسل.. ولن أتحدث عن مثال نجيب محفوظ الذي لم يغادر القاهرة وأبدع ما أبدع، لأن هناك من تنحدر الجغرافيا مع جيناته، وهذا استثناء نادر على أيّ حال.. هكذا إذن نحبو إلى شيخوختنا..
ومن محاسن الصدف أن ألتقي «باسم فرات» على حافة العالم الجنوبية، نيوزيلندا، ولم تكن مفارقة أن نضيف بعض يوم على أعمارنا مقارنة بما ستكون عليه في العراق مثلا، وأن نستقبل شروق الشمس والاحتفال بالأعوام الجديدة قبل الآخرين، وكان علينا، نحن العراقيين خصوصا، أن نقتنع بأن تموز وآب من أبرد شهور السنة، كما كان علينا أن نقتنع بأن الجنوب بارد جدا والثلوج تغطي مساحته طوال السنة، والشمال حار.. وكنا كلما تحدثنا إلى أصدقائنا في بقاع العالم تلفونيا، اختلطت علينا الأفكار وتشابكت الأحاسيس وغدا من الصعوبة فهم أحدنا الآخر، فعندما تتدفق كلماتنا المزهوة بالربيع، ستحبطها سلبية أصدقائنا على الطرف الآخر بكلمات خريفية تتساقط من شجرة الأيام!
ومنذ اللقاء الأول في «ويلنغتون» العاصمة غدونا صديقين نلتقي مرات في الأسبوع ويهاتف أحدنا الآخر مرات أخرى وكنت بأمسّ الحاجة لصديق مثل باسم بحيويته وحبه للبحث والاستكشاف، كان يقيم علاقات سريعة مع عراقيين وعرب وأجانب، وعندما أتينا على ذخيرتنا من الكتب، شمّر باسم عن ساعده وابتدأ رحلة البحث عن الكتب التي في جعبة الغرباء، وكلما سافر أحد معارفه إلى بلد عربي طلب منه أن يحمل في حقيبته ما يقدر، وكنا نقرأ ونتبادل الآراء حول ما نقرأ، وسرعان ما دخل إلى حياة المدينة الثقافية ونشاطاتها وعرف شاعرا هناك منذ السنة الأولى.. ولا ننسى الإشادة بمساهمته في إغناء مجلة «جسور» التي كانت تصدر في سيدني، أستراليا باللغتين العربية والإنكليزية.. وجاء ارتباطه النهائي بالبلد الجديد بعد زواجه من «جنيت» والتي أهدى كتابه هذا إليها.
كتب «باسم» الكثير من قصائده بوحي من المكان الذي وجد نفسه فيه، وقد دخلت الكثير من أساطير الموريين فيها مع أسماء مدن وطيور وآلهة، كما دخلت أساطير الأقوام الأخرى التي أقام بينها في آسيا وأميركا الجنوبية.. لن يضيع شيء من يد باسم : الأساطير إلى القصيدة، والمدن والطبيعة إلى كتاب الرحلات والذكريات.. وكانت الأيام والتواريخ تنطبع في ذاكرته بدقة كبيرة، فإذا ما سألته عن حدث ما، سيقول لك مثلا: قبل ثلاث سنين وأربعة أشهر ويومين، وعن بقائه في بلد ما سيفاجئك: خمسة أعوام وتسعة أشهر وخمسة وعشرون يوما… الخ، تنتفي الحاجة إلى تقويم مع باسم!
كتب باسم عن إقامته ورحلاته القصيرة والطويلة في آسيا، كما كتب عن إقامته ورحلاته في أميركا الجنوبية، وسيكتب في يوم قادم عن أفريقيا.. وطال انتظاري لكتاب له عن البلد الجميل» نيوزيلندا» أو « أوتياروّا» بلغة الموريين، وكنت على يقين من أن باسما سيكتبه في يوم ما، ولم يخب ظني، فالكتاب عاش في ذاكرته طوال الأعوام السابقة يعدّل وينقح فيه شفويا، إلى أن حان وقت كتابته، والتي لم تستغرق منه إلا زمنا قصيرا حسب ما جاء في مقدمته للكتاب.
الكتاب كما هو واضح للقارئ ليس كتاب رحلات فقط ولا كتاب ذكريات فقط ولا كتابا أدبيا، بل هو يجمع كل هذا، إضافة إلى آراء ومواقف له في الحياة والثقافة.. ويحدثنا فيه عن أول دخوله للبلد قادما من عمان، وعن العراقيين الذين رافقوه في رحلته، ويحدثنا عن أيامه الأولى في «ويلنغتون» العاصمة، عن اللغة الإنكليزية وتعلمها والبحث في المدينة عن فرص أفضل للعيش، عن العمل وعن المجتمع العراقي اللاجئ هناك، وقد نتفق معه في رأيه أو لا نتفق.. وكان عليه أن يمضي بضع سنوات في «ويلنغتون» قبل أن تبدأ رحلاته في الجزيرتين الساحرتين، الشمالية والجنوبية، وقد يكون بالفعل، كما كتب، أول عراقي يصل إلى تلك الأصقاع الواقعة في جنوب الجنوب.. والفقرات التي كتبها عن رحلاته وتوغله في طبيعة نيوزلندا ومدنها الجنوبية، من الفقرات الجميلة والتي تشد القارئ وتلتصق بذاكرته لزمن طويل..
وكعادته في كل كتاباته النثرية، لم يخلُ هذا الكتاب من الإشارة إلى تأريخ العراق الحديث والأقدم وآرائه في هذا التأريخ والأقوام التي سكنت العراق وكيف تكوّن العراق وجغرافيته التي تمتد إلى آلاف السنين .. وكانت العملة العراقية من عشرينات القرن الماضي والتي رآها في متحف صغير في جنوب نيوزيلندا وعليها صورة الملك فيصل الأول، ولم يرها من قبل لا في العراق ولا في غيره، بمثابة دعوة رمزية للالتفات إلى ذلك التاريخ واستكشاف كنوزه من بين طبقات الظلام المتكدسة حولها، حتى لم تعد الأجيال الأحدث ترى من تأريخنا غير هذا الظلام..
باسم فرات الشاعر والفوتغرافي المحترف، يكتب لـ»القارئ» بمعناه الكبير، لا للشاعر ولا للفلاح، لا للصحافي ولا للطالب… هو يكتب لكل هؤلاء بأسلوب تأخذك سلاسته وستلتصق الكثير من صفحاته في الذاكرة زمنًا طويلاً بالتأكيد.